نستعرض في هذا المقال فتاوى المرجع الديني آية الله السيّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظله) حول موضوع الاستنساخ البشري في كتابه الموسوم بـ (فقه الاستنساخ البشري وفتاوى طبيّة) بما يمثل جانباً من وجهة النظر الفقهية في هذه المسألة.
ما هو الاستنساخ البشري؟ مقدمة بقلم: د. أبو حسين المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وفي أنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ } (فصلت: 53).
إنّ مسألة البحث والتطوُّر العلمي من لوازم وجود الإنسان فوق هذا الكوكب، لأنّه الطبيعة الناطقة والتي تُقوِّم الإنسان وتميّزه عن غيره من الحيوانات هي مبدأ التفكير الذي يُعدّ الأساس لاكتشاف كلّ مجهول في هذا الكون وبالتالي الانطلاق في آفاق التقدُّم العلمي.
وعلى الرغم من استحالة الوقوف في وجه هذه الخصيصة الإنسانيّة أو عرقلة عجلة التقدّم والتطوير العلمي للإنسان، لكن لابدّ من وجود قانون أخلاقيّ يكون ناظراً وحاكياً على نتائج هذه الحركة العلميّة من أجل حفظه من الانحراف أو الطغيان المنافي للكمال الحقيقي للإنسان في هذا العالم.
وليس لدينا أفضل ولا أكمل من الشريعة الإسلامية الغرّاء والتي لها في كل واقعة حكم لترشيد وهداية هذه الحركة العلميّة واستثمار نتائجها لصالح البشرية.
وعلى الرغم من أنّه لا يوجد من الأديان مَن قد حثّ أتباعه على طلب العلم والمعرفة في كل مكان مثل الدين الإسلامي الحنيف، إلّا أنّه في الوقت ذاته حثّهم على أن يشكروا هذه النعمة الكبيرة أي العقل والعلم، وأن يسّخروا علومهم لخدمة الإنسانيّة جمعاء، وألّا يكفروا هذه النعمة بتسخيرها في خدمة الشر وهلاك البشريّة كما يحدث في كثير من الأحيان في الغرب في زماننا الحاضر.
والإنسان المؤمن بما يتحلى به من الرؤية الكونيّة يرى أنّ الدنيا وسيلة إلى الآخرة، فهو حريص أن يعرف موقف الدين الإسلامي الحنيف من كل حادثة في زمانه، فيفزع إلى أهل الذكر وهم فقهاء الإسلام (رضي الله عنهم) من أجل معرفة الحكم الشرعي وتعميم تكليفه تجاه ذلك الأمر.
ومن هذه الحوادث ظهر في الغرب في عام (1997 م) اكتشاف علمي كبير وعجيب قائم على أساس الاستنساخ الحيواني أي الحصول على نسخة طبق الأصل من الحيوان الموجود كما سيأتي تفصيله وقد تمت التجربة بنجاح في بريطانيا باستنساخ نعجة سُميت (دولي) مما أثار ضجة عالمية كبيرة وأوجدت ردود أفعال متباينة بين موافق ومخالف خاصة مع إمكان تطبيقها على الإنسان.
وقبل الولوج في بيان كيفيّة هذه العملية لابد من تقديم مقدمة مختصرة عن طبيعة الخلية الحيوانية والتي يشترك فيها الإنسان مع سائر الحيوانات، وعن كيفية تكاثرها الطبيعي والجنسي.
1- تركيب الخلية الحيوانية
تتركب الخلية الحيوانية من نواة مركزية تعد مبدأ الفاعلية الحيوية فيها، وتحتوي على (46) من الأجسام الصبغية (الكروموسومات) الحاملة للعوامل الوراثية (الجينات)، وهي محاطة بغشاء رقيق ويحيط بها من الخارج سائل غذائي مخصوص يسمى (سيتوبلازم) المحاط بدوره بغشاء الخلية نفسها.
2- أنواع التكاثر الخلوي
أ- التكاثر الطبيعي:
وهو الذي يتمّ في جميع أعضاء الجسم الطبيعية ويؤدي إلى نموها وفيها ينشطر كل جسم من الأجسام الصبغية إلى نصفين ثم يكمل كل نصف نفسه إلى جسم كامل ويذهب كل شطر بعد تكامله إلى أطراف النواة والتي تنقسم بعد ذلك إلى نواتين ثم تنقسم الخلية بعد ذلك إلى قسمين يحتوي كل قسم منها على نواة مستقلة تحمل نفس عدد الأجسام الصبغية (46) التي كانت موجودة في الخلية الأولى.
ب- التكاثر الجنسي:
ويتم داخل الأعضاء الجنسية لكل إنسان أي الخصيتين في الذكر، والمبيضين في الأنثى، حيث تنقسم الخلية في هذه الأعضاء بنحو آخر وذلك بانقسام الأجسام الصبغية فيها إلى نصفين كما هو الحال في التكاثر الطبيعي، ولكنّه يبقى كل نصف على حاله لا يتكامل، ثم تنقسم النواة والخلية بعد ذلك إلى خليتين جنسيتين وهما الحيامن في الذكر والبويضات في الأنثى.
وتحتوي كل خلية جنسية على نواة تحمل (23) كروموسوم أي نصف عدد الكروموسومات في الخليّة الطبيعية ومن أجل الحصول بعد ذلك على الجنين الحيواني أو الإنساني هناك طريقان:
1- الطريق الطبيعي:
وذلك بإيصال الحيامن الذكرية إلى رحم الأنثى عن طريق الجماع الجنسي الطبيعي، وهناك تلتقي الحيامن مع البويضة، ويتمكن واحد منها بإذن الله تعالى من تلقيح البويضة فتنعقد النطفة وتتعلق بالرحم ثم تصير علقة ومضغة وتستكمل بعد ذلك جنيناً تاماً.
2- الطريق الصناعي:
وهو طريق مستحدث منذ عدّة سنوات لمعالجة حالات العقم ويتمّ عن طريق أخذ الحيامن الذكريّة والبويضات وتلقيحها خارج الرحم في أنبوبة تحتوي على محيط غذائي خاص ثم بعد انعقاد النطفة يتم إعادة حقنها في الرحم لتستكمل جنيناً بعد ذلك.
والجدير بالإشارة هنا أنّه في كلا الحالتين فإنه بعد التلقيح تتحد نواة الحيوان المنوي الذكري مع نواة البويضة الأنثوية والذي يحتوي كلاً منها على (23) كروموسوم ليصيرا نواة واحدة تحتوي على (46) كروموسوم، تحوي الصفات الوراثية المشتركة بين الذكر والأنثى، ثم تبدأ النواة المشتركة بعد ذلك في التكاثر والانقسام في طريق حصول الجنين.
ومن الواضح هنا أنّ الجنين الحاصل ليس نسخة طبق الأصل من الذكر أو الأنثى بل هو حصيلة انتاج مشتركة بينهما يحمل صفاتها الوراثية، فهو ابن لهما.
وبعد الانتهاء من هذه المقدمة التمهيدية نشرع في بيانٍ مختصر عن عملية الإستنساخ الحيواني والتي هي موضوع بحثنا:
[ شرح مختصر لعملية الاستنساخ الحيواني ]
تبدأ هذه العملية بانتزاع خلية جسمية لا جنسية من جسم الحيوان المطلوب استنساخه سواء كان ذكر أو أنثى (وفي مورد النعجة المذكورة تم أخذها من الضرع) ثم يتم بعد ذلك تفريغ الخلية من نواتها المشتملة بالطبع على (46) كروموسوم ثم بعد ذلك يتم وضع هذه النواة في بويضة أنثوية بعد تفريغها من نواتها الخاصة بها والتي كانت تشتمل على (23) كروموسوم وذلك في محيط غذائي خارج الرحم في المختبر، وبالتالي يصبح لدينا خلية نواتها من حيوان يحمل جميع صفاته الوراثية بعينها ومحيطها الغذائي (السيتوبلازم) من حيوان آخر وبما أن السائل السيتوبلازمي هو الذي يحدد مسير انقسام النواة، فسوف تبدأ النواة الضيفة بعد التحفيز الصناعي بالانقسام في اتجاه تكوين الجنين فتصبح بحكم النطفة، ثم يعاد حقن هذه النطفة المنقسمة إلى رحم أنثى حيوان حتى يستكمل هناك جنيناً تامّاً يكون نسخة طبق الأصل من الحيوان صاحب النواة يحمل جميع صفاته الوراثية.
رفع شبهة: [ لا علاقة للاستنساخ بموضوع الخلق ]
إنّ هذه العملية ليست من باب الخلق ولا الإيجاد المختصة بالله تعالى، ولكنه عبارة عن عملية تلقيح صناعي معدل، تنقل فيها النواة التي تحتوي على سر الحياة إلى البويضة ثم إعادتها بعد التلقيح إلى الرحم من أخرى ليحصل الجنين بعد ذلك بالطريق الطبيعي.
[ ما هو الإشكال في عملية الاستنساخ الحيواني ]
إنّ الإشكال المهم في هذه العملية والذي كان مثار ضجّة كبيرة وحيرة بين الناس خاصة المؤمنين منهم، هو أن الجنين الحاصل من هذه العملية ليس في الحقيقة انتاجاً مشتركاً بين الذكر والأنثى كما بيّنا سابقاً، لأنّه ليس نتيجة تلاقح بين نواة الحيوان المنوي للذكر ونواة البويضة للأنثى، بل عبارة عن تكثير نواة واحدة لطرف واحد بالاستعانة بمحيط غذائي (سيتوبلازم) لبويضة حيوان آخر، وبالتالي لا يحمل إلّا الصفات الوراثية لطرف واحد وهو صاحب النواة، وبالتالي ينتفي المعنى العرفي للبنوة لكل من الأب والأم.
وبما أن الأحكام تابعة للعناوين فنقع في مشكلة كبيرة متعلقة بأحكام النسب والمواريث لهذا الجنين الحاصل وما يتفرع عليها من أحكام كثيرة في باب المعاملات كالنكاح بالولاية وغيرها.
وعلى الرغم من أن هذه العملية لم تطبَّق بعد على الإنسان إلّا أنّ إمكانها موجود، ومن أجل الاستعداد لمثل هذا الاحتمال فقد لاذ المسلمون إلى علمائهم يستفتونهم عن رأي الدين والشريعة في أصل شرعية هذه العملية، والموقف الشرعي في هذا الطفل الحاصل من هذه العملية والذي يعد نسخة طبق الأصل من صاحب النواة.
وكان في مقدمة هؤلاء العلماء الأعلام سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (أدام الله ظله الشريف على رؤوس المسلمين) فقد تصدى سماحته للإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة من جانب بعض المؤمنين وتفضل ببيان الحكم الشرعي فيها.
وفي الختام نسأل المولى عز وجل أن يحفظ سماحته ويوفقه لخدمة الشريعة الغراء، وأن ينفعنا بعلمه الشريف في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.
د. أبو حسين المصري
فتاوى آية الله السيد محمد سعيد الحكيم (حفظه الله) حول الاستنساخ البشري
الأسئلة
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (مدّ ظله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يرجى الإجابة على الأسئلة التالية، ولكم من الله جزيل الأجر ومنّا كثير الشكر سلفاً:
وذلك أنّه بعد كثير من التجارب العلمية واستخدام أحدث التقنيات اكتُشِفت طريقة جديدة لإنتاج الكائنات الحيّة.
فقد أعلن العلماء أنّ من الممكن تطبيقها على الإنسان بعد نجاح عملياتها على الحيوان والنبات وقد سُميت هذه العملية بـ (الإستنساخ الجيني).
وتتم بأخذ بويضة أنثوية، وبعد تفريغ البويضة من نواتها تؤخذ خلية جسم عادية وتؤخذ منها نواتها، ثم تزرق نواة الخلية العادية داخل البويضة المفرغة، وبتأثير شرارة كهربائية تبدأ بالانقسام مكونة كائناً جديداً، ثم توضع البويضة بعد تبديل نواتها داخل رحم الانثى لتبدأ مسيرتها فيه كجنين.
ومن سمات الكائن الجديد كونه مطابقاً تماماً للكائن صاحب الخلية، وأنه لا يحتاج لذكر وانثى لتكوينه ولا يحتاج إلّا إلى الانثى فقط، ممّا يؤدي لأن تكون عمليات تكوين الإنسان خارج نطاق الاسرة.
وسميت هذه العملية بالإستنساخ لأنه لا يمكن تمييز الكائن الجديد عن القديم إطلاقاً، ويقال: أن هذه العملية ستسبب مشاكل أخلاقية كبيرة، إذ من الممكن أن يستخدمها المجرمون للهروب من العدالة، كأن تكون هناك نسختان متطابقتان تماماً تقوم إحداهما بجريمة ولا يمكن معرفة الفاعل الحقيقي.
وقد تم فعلًا انتاج نعجة وفق هذه الطريقة بعد (227) محاولة فاشلة، فما هو موقف الشرع المقدس من خلال هذه الأسئلة التي نعرضها على سماحتكم؟:
أولًا: عن جواز أصل العمليّة أو عدمه شرعاً لو تم تخليق إنسان بهذه الطريقة؟ وبأية شروط لو كانت؟
ثانياً: إذا كان من خُلق بهذه الطريقة إنساناً فما هو نسبته للشخص الذي انتُزعت منه الخلية امرأة كان أو رجلًا؟
أ- هل هو بمنزلة الابن؟ بالنظر إلى أن أصل تخليقه هو الخلية المأخوذة عنه بدلًا من الحويمن أو البويضة في التولد الاعتيادي؟
ب- أم بمنزلة الأخ؟ لأنّ انتسابه بايولوجياً ووراثياً لخلية كان ما فيها من موروثات هو حاصل جمع حويمن وبويضة والدي صاحب الخلية.
ج- أم هو أجنبي شرعاً؟ وكيف نصنع بالانتساب البايولوجي والوراثي لصاحب الخلية، أعني: أنّه من هذه الناحية علمياً يعتبر قرابة له، شأنه شأن المخلوق بالطريقة الاعتيادية.
ثالثاً: ما هو حكمه من حيث تبعيته الدينية أثناء الطفولة، هل يعتبر مسلماً أم كافراً؟ أم تكون نسبته طبقاً لدين صاحب الخلية؟
رابعاً: ما حكمه من حيث النسب:
أ- فيما يتصل بالعاقلة أو لولاء ضامن الجريرة؟
ب- هل يُعتبرهاشمياً لو اخذت الخلية من هاشمي حتّى مع الحكم بعدم بنوَّته أو اخوَّته لصاحب الخلية؟
خامساً: هل هناك حقوق تترتَّب شرعاً بينه وبين صاحب الخلية؟
سادساً: لو اعتبر بمنزلة الأجنبي، فما هو حكمه من حيث جواز زواجه ممّن لو كان ابناً أو أخاً لصاحب الخليّة لكان من المحرمات بالنسبة له؟
سابعاً: ما هو حكم الحيوان المخلوق بهذه الطريقة من حيث عائديته أو ملكيته، هل يعود لمالك الحيوان الذي انتُزِعت منه البويضة أو الخلية؟ أم هو للقائم بعملية التخليق؟
ثامناً: ما هو حكم لحم ولبن الحيوان الذي تصرَّفوا في هندسته الوراثية حتى أصبح دمه مشابهاً لدم الإنسان؟ وما هو حكم الدم المتخلف من هذا الحيوان لو ذُكي؟
تاسعاً: يجري الحديث عن إمكانيّة استنساخ بعض أعضاء الإنسان في المختبر وحفظها كاحتياطي له أو لأي شخص آخر عند الحاجة إليها، فهل يجوز ذلك؟ وهل يشمل الجواز الأعضاء التناسلية أو لا يجوز باعتبار أنها منسوبة للشخص فيحرم كشفها مثلًا؟ وكذلك بالنسبة لاستنساخ الدماغ هل هو جائز؟ علماً أنه هناك دراسة عملية حول الموضوع، يراد بحث الجانب الفقهي فيه.
الرجاء سيدنا الفقيه الأجل (دام ظلكم) الإجابة على هذه الأسئلة بتفصيل لأنها أسئلة تدور بين المؤمنين.
أجوبة السيّد محمّد سعيد الحكيم (حفظه الله)
أولاً: الظاهر إباحة انتاج الكائن الحي بهذه الطريقة أو غيرها ممّا يرجع إلى استخدام نواميس الكون التي أودعها الله تعالى فيه، والتي يكون في استكشافها المزيد من معرفة آيات الله تعالى وعظيم قدرته ودقّة صنعته، استزادة في تثبيت الحجّة وتنبيهاً على صدق الدعوة، كما قال عزّ من قائل: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وفي أنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيد } (فصلت: 53).
ولا يحرم من ذلك إلّا ما كان عن طريق الزنى، ويلحق به على الأحوط وجوباً تلقيح بويضة المرأة بحيمن الرجل الأجنبي تلقيحاً صناعياً خارج الرحم، بحيث ينتسب الكائن الحي لأبوين أجنبيين ليس بينهما سبب محلل للنكاح. أما ما عدا ذلك فلا يحرم في نفسه، إلا أن يقارن أمراً محرماً كالنظر لما يحرم النظر إليه ولمس ما يحرم لمسه، فيحرم ذلك الأمر.
وقد سبق أن وَرَدنا استفتاء حول هذا الموضوع من بعض الاخوة الذين يعيشون في بريطانيا عند قيام الضجة الاعلامية العالمية حوله بين مؤيد ومعارض، وقد أشير فيه لبعض الأمور التي سيقت كمحاذير يتوهم منها التحريم، وهي:
[ مشكلة انعدام الأسرة في الاستنساخ البشري ]
1- انتاج الكائن الحي خارج نطاق الاسرة.
ولم يتضح الوجه في التحريم من أجل ذلك، حيث لا دليل في الشريعة على حصر مسار الإنسان في تكوّنه ونشاطاته بسلوك الطرق الطبيعية المألوفة، بل رقي الإنسان إنما هو باستحداث الطرق الاخرى، واستخدام نواميس الكون المودعة فيه التي يُطلِعه الله عليها بالبحث والاجتهاد، والاستزادة في طرق المعرفة، كما لا دليل على حصر انتاج الإنسان في ضمن نطاق الاسرة، ولاسيما بعد خلق الإنسان الأول من طين، ثم خلق نبي الله عيسى (ع) من غير أب، وخلق ناقة صالح (ع) وفصيلها على نحو ذلك كما تضمنته الروايات.
[ المشاكل الأخلاقيّة في الاستنساخ البشري ]
2- إن هذه العملية ستسبب مشاكل أخلاقية كبيرة، إذ من الممكن أن يستخدمها المجرمون للهروب من العدالة.
وهذا كسابقه لا يقتضي التحريم، فان الإجرام وإن كان محرّماً إلّا أنّ فعل ما قد يستغله المجرم ليس محرّماً، وما أكثر ما يقوم العالم اليوم بانتاج وسائل يستخدمها المجرمون وتنفعهم أكثر مما تنفعهم هذه العملية، ولم يخطر ببال أحد تحريمها. وربما كان انتفاع المجرمين بمثل عملية التجميل أكثر من انتفاعهم بهذه العملية، فهل تحرم عملية التجميل لذلك؟! وفي الحقيقة أن ترتب النتائج الحسنة أو السيئة على مستجدات الحضارة المعاصرة تابع للمجتمع الذي تعيش فيه ويستغلها فإذا كان مجتمعاً مثالياً كانت النتائج إنسانية مثمرة، وإذا كان مجتمعاً مادياً حيوانياً كانت النتائج اجرامية مريعة كما نلمسه اليوم في نتائج كثير من هذه المستجدات في المجتمعات المتحضرة المعاصرة.
[ مشكلة التجارب الفاشلة في محاولات الاستنساخ البشري]
3- إن نجاح هذه العملية قد تسبقه تجارب فاشلة تفسد فيها البويضة قبل أن تنتج الكائن الحي المطلوب.
فإن كان المراد بذلك أن انتاج الكائن الحي لمّا كان معرّضاً للفشل كان محرّماً لأنّه يستتبع قتل البويضة المهيأة لها وهو محرّم كإسقاط الجنين.
فالجواب: إن المحرم عملية قتل الكائن الحي المحترم الدم أو قتل البويضة الملقّحة التي هي في الطريق إلى الحياة، وذلك بمثل الإسقاط، وليس المحرّم على المكلّف عملية انتاج كائن حيّ يموت قبل أن يستكمل شروط الحياة من دون أن يكون له يد في موته، فيجوز للإنسان أن يتصل بزوجته جنسياً إذا كانت مهيأة للحمل، وإن كان الحمل معرّضاً للسقوط نتيجة عدم استكمال شروط الحياة له، بسبب قصور الحيمن، أو البويضة، أو عدم تهيؤ الظرف المناسب لاستكمال الجنين نموه وكسبه للحياة، وعلى كل حال لا نرى مانعاً من العملية المذكورة، إلا أن تتوقف على محرم آخر، كالنظر لما يحرم النظر إليه ولمس ما يحرم لمسه وغير ذلك.
[ والدا الإنسان الناتج عن عملية الاستنساخ البشري]
ثانياً: إذا كان من خُلق بهذه الطريقة- إنساناً فما هو نسبته للشخص الذي انتزعت منه الخلية امرأة كان أو رجلًا ...
الجواب: إذا كان انتاجه بالوجه السابق فليس له أب قطعاً، لأن النسبة للأب تابعة عرفاً لتكوُّن الكائن الحي من حيمنه بعد اتحاده مع البويضة، كما يشير إليه قوله تعالى: { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ }. ولا دخل للحيمن هنا بل للخلية المأخوذة من الجسد. وخصوصاً إذا كانت الخلية مأخوذة من جسد المرأة، حيث لا معنى لكونها أباً للإنسان المذكور.
وقد ورد في نصوص كثيرة: أنّ الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم، وبغض النظر عن صحّة النصوص المذكورة والبناء على مضمونها فإنّه لم يتوهَّم أحد أنّ مقتضى هذه النصوص كون حواء بنتاً لآدم، وذلك يكشف عن أن معيار بنوة شخص لآخر ليس هو خلقته من جزء منه، بل خلقته من مَنِيِّه كما ذكرنا.
وأما النسبة للُام فهي تابعة لتكوُّن الكائن الحي من بويضتها، وهو هنا لا يتكون من تمام بويضتها بل من بعضها بعد تفريغها من نواتها، ومن ثم يشكل نسبته لها. نعم يصعب الجزم بعدمه.
كما لا مجال للبناء على أنّه أخ لصاحب الخلية أو البويضة بعد أن كان الأخ هو الذي يشارك أخاه في أحد الأبوين، وليس المعيار حمل الخصائص الحياتية والوراثية لعدم دخله في الانتساب عرفاً.
والمرجع في ضابط الانتساب هو العرف لا غير، وعليه عوّل الشارع الأقدس في ترتيب الأحكام حسبما نستفيده من الأدلّة الشرعية. ولنفترض أن توصَّل العلم الحديث إلى اكتشاف ناموس يتيسّر به تحويل خلية حيوانية أو نباتية ببعض التعديلات إلى إنسان مشابه لإنسان مخلوق بالطريق الاعتيادي في الخصائص الحياتية والوراثية، فهل يمكن أن نحكم بحصول علاقة نَسَبية بينهما بمجرد ذلك، من دون تحقق الضوابط النَسَبية العرفية المعهودة؟! لاريب في عدم جواز ذلك، بل نحن مُلزَمون بتخطّي التشابه المذكور وتجاهله، والحكم بأنّهما أجنبيان، وهكذا الحال في المقام حيث يتعيَّن كون الإنسان المذكور أجنبيّاً عن صاحب الخلية، وليس بينهما أي ارتباط أو عنوان نسبي.
[ حكم التبعية في الدين للإنسان المتكوُّن من الاستنساخ البشري ]
ثالثاً: ما هو حكمه من حيث تبعيته الدينية أثناء الطفولة، هل يعتبر مسلماً أم كافراً؟ أم يكون نسبته طبقاً لدين صاحب الخلية؟
الجواب: مادام طفلًا لا تمييز له يجري عليه حكم من هو تابع له في حياته، بحيث يصير في حوزته، كما يتبع الطفل الأسير آسره، فإذا صار مميزاً فهو محكوم بحكم الدين الذي يعتنقه، ولو فرض كفره لم يكن مرتدّاً حتّى لو كان صاحب الخليّة مسلماً، لعدم كونه أباً له كما سبق.
[ نَسَب الإنسان المتكوّن نتيجة الاستنساخ البشري ]
رابعاً: ما حكمه من حيث النسب؟
الجواب: لما كان الانتساب للعشيرة يتفرع على الانتساب للأب، فعدم انتساب الإنسان المذكور لصاحب الخلية بالبنوة وعدم ابوّة صاحب الخليّة له كما سبق يستلزم عدم انتسابه لعشيرة صاحب الخلية، وعدم كونه هاشمياً لو كان صاحب الخلية هاشمياً مثلًا، كما يتضح بملاحظة ما تقدم في جواب السؤال الثاني، وعلى ذلك ليس له عاقلة بل ينحصر عقله بضامن الجريرة والإمام (ع).
نعم حيث تقدَّم الشكّ في انتسابه لصاحبة البويضة، يتعيَّن الشك في انتسابه لمن ينتسب إليها، مثل كونه سبطاً لأبويها وكون اخوتها أخوالًا له، ولا طريق للجزم بثبوت الانتساب المذكور ولا نفيه، ولا بثبوت آثاره ولا نفيها، بل يتعيّن الاحتياط في ترتيب الأحكام الشرعية المتعلقة بذلك.
خامساً: هل هناك حقوق تترتب شرعاً بينه وبين صاحب الخلية؟
الجواب: لا حقوق بينهما لعدم النسبة بينهما، على ما تقدم في جواب السؤال الثاني.
[ زواج الانسان المتكوّن نتيجة الاستنساخ البشري ]
سادساً: لو اعتبر بمنزلة الأجنبي، فما هو حكمه من حيث جواز زواجه ممّن لو كان ابناً أو أخاً لصاحب الخلية لكان من المحرمات بالنسبة له؟
الجواب: مقتضى ما تقدَّم عدم المحرمية بين الإنسان المذكور وصاحب الخلية، فضلًا عمن يتصل به كأبيه وأخيه وابنه. نعم قد يظهر من بعض النصوص الواردة في بدء التكوين استنكار نكاح الإنسان لما يتكون من بعضه، والنص المذكور وإن كان ضعيفاً سنداً إلّا أنّ المرتكزات الشرعية قد تؤيده من دون أن تنهض حجة قاطعة تسوِّغ الفتوى بالتحريم، ومن ثم قد يلزم الاحتياط بتجنُّب النكاح بينه وبين صاحب الخلية، بل حتى بينه وبين أبيه وأخيه وابنه، كما أن احتمال بنوّته لصاحبة البويضة الذي ذكرناه آنفاً مُلزِم بالاحتياط بعدم التناكح بينه وبينها، بل بينه وبين من يحرم بسببها على بنيها كأخيها واختها وابنها وبنتها ونحوهم.
[ مُلكية الحيوان المتكون نتيجة الاستنساخ الحيواني ]
سابعاً: ما هو حكم الحيوان المخلوق بهذه الطريقة من حيث عائديته أو ملكيته، هل يعود لمالك الحيوان الذي انتزعت منه البويضة أو الخلية؟ أم هو للقائم بعملية التخليق؟
الجواب: يعود الحيوان طبعاً لمالك الحيوان الذي انتزعت منه البويضة، لأن نمو الجسم المملوك تابع له، وإذا نما الجسم لم يخرج عن ملك مالكه، سواء كان مع حفظ الصورة النوعية كنمو فرخ الحيوان حتى يكبر أم مع تبديلها كنمو الحب حتى يصير شجرة، ونمو البرعم حتى يكون في نهاية الأمر ثمرة، وذلك من الأحكام العرفية الارتكازية التي تحمل عليها الإطلاقات المقامية، وعلى ذلك جرى الفقهاء فحكموا بأنه لو غصب شخص حباً فزرعه صار الزرع لمالك الحب لا للغاصب، كما أن الحيوان ملك لمالك أمه.
هذا كله إذا أخذت البويضة من غير إذن مالك الحيوان، أما إذا أخذت بإذنه فالمتبع هو نحو الاتفاق حين الإذن بين صاحب الحيوان والآخذ.
[أحكام دم ومنتجات الحيوان المستنسخ ]
ثامناً: ما هو حكم لحم ولبن الحيوان الذي تصرفوا في هندسته الوراثية حتى أصبح دمه مشابهاً لدم الإنسان؟ وما هو حكم الدم المتخلف من هذا الحيوان لو ذُكي؟
الجواب: أما لحم الحيوان ولبنه فهو بحكم لحم ولبن مماثله، مما يندرج في نوعه عرفاً، كالغنم والبقر والقطة والكلب والإنسان، لدخوله في أدلة أحكام لبن ولحم ذلك الحيوان، فما دل على حلية لحم ولبن الغنم مثلًا يدل على حلية لحم ولبن الغنم الذي تصرفوا في هندسته الوراثية، لأنه من أفراده عرفاً. ومجرد مشابهة دمه لدم الإنسان لا يخرجه عن موضوع تلك الأدلة. وأما الدم المتخلف من هذا الحيوان لو ذُكي فهو طاهر إذا كان الحيوان قابلًا للتذكية، لما دل على طهارة الدم المتخلف في الذبيحة، لعدم النظر في ذلك الدليل لتركيبة الدم وعناصره.
على أنه لو فرض قصور ذلك الدليل كفى أصل الطهارة في البناء على طهارة الدم المذكور، وأما ما دل على نجاسة دم الإنسان فهو مختص بالدم المتكون في جسد الإنسان، ولا يعمّ كل دم مشابه لدم الإنسان في عناصره.
وبعبارة أخرى: أن نسبة الدم لصاحبه عرفاً على أساس تكونه فيه، لا على أساس حمله لعناصر دمه.
[ حكم استنساخ أعضاء الإنسان ]
تاسعاً: يجري الحديث عن إمكانية استنساخ بعض أعضاء الإنسان في المختبر وحفظها كاحتياطي له أو لأي شخص آخر عند الحاجة إليها، فهل يجوز ذلك؟ وهل يشمل الجواز الأعضاء التناسلية أو لا يجوز باعتبار أنها منسوبة للشخص فيحرم كشفها مثلًا؟ وكذلك بالنسبة لاستنساخ الدماغ هل هو جائز؟
الجواب: يجوز ذلك بأجمعه حتى في الأعضاء التناسلية، ويجوز النظر إليها، لعدم كون نسبتها على حد النسبة التي هي المعيار في التحريم، فإن النسبة التي هي المعيار في التحريم هي نسبة الاختصاص الناشئة من كونها جزءً من بدن المرأة أو الرجل كيدهما ورجلهما، والمتيقن من الحرمة حينئذٍ حالة اتصالها بالبدن، أما مع انفصالها فلا تخلو الحرمة عن إشكال. أما نسبة الاختصاص في المقام فهي ناشئة من كون أصلها من خليته ولا دليل على كونها معياراً في الحرمة. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.
[ التحذير من الاستخدام السيء للاستنساخ البشري فيما يضر البشريّة ]
وفي ختام هذا الحديث بعد بيان الحكم الشرعي نحن نحذر من استغلال هذا الاكتشاف وغيره من مستجدات الحضارة المعاصرة فيما يضر البشرية ويعود عليها بالوبال، فإن الله عظمت آلاؤه خلق هذا الكون لخدمة الإنسان ولخيره، كما قال عز من قائل: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }. وقال تعالى: { ألم تروا أن الله أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً }.
فلا ينبغي الخروج به عمّا أراده الله تعالى له، فنستحق بذلك خذلانه ونقمته، كما قال عز من قائل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }.
ونسأله سبحانه أن يسددنا وجميع العاملين في حقل المعرفة لتحقيق الحقائق وإيضاحها، وخدمة البشرية وإصلاحها إنه وليّ التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
استفتاءات أخرى حول الاستنساخ البشري أجاب عنها سماحته أيضاً
السؤال 2: يجري الحديث الآن عن استنساخ بعض أعضاء الانسان في المختبر وحفظها ك- (احتياطي) لمن استنسخت عنه، فإذا احتاج إليها في وقت تركب له. فلا يحتاج الانسان أن ينتظر وقوع حادث لشخص حتى يؤخذ كبده أو كليته مثلًا؟
الجواب: إذا كان المراد بذلك أخذ خلية من عضو الإنسانمن دون أن تضر بذلك العضوثم زرعها حتى يتم منها عضو تام يحفظه كاحتياطي فهو أمرحلال بلا إشكال. وإن كان المراد غير ذلك فلابد من إيضاحه حتى يتيسر لنا النظر في حكمه.
السؤال 3: هل يجوز شرعاً تخصيب بيضة المرأة بخلايا من نفس المرأة؟ (علماً أن الجنين الناتج صورة طبق الأصل من أمه) وهل الدخول في هذا البحث فيه إشكال، باعتبار أنه بحث رسالتي للدكتوراه؟
الجواب: نعم يجوز ذلك. ويجوز الدخول في هذا البحث ونحوه من البحوث في نواميس الكون واستكشاف قدرة الله تعالى وعجيب خلقه استزادة في تثبيت الحجة. وقال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
نعم لابد من عدم اقترانه بمحرم خارج كالنظر لما يحرم النظر إليه، والحذر من الغرور العلمي الذي قد يجر للمهالك. ومنه تعالى نستمد التوفيق والتسديد وهو حسبنا ونعم الوكيل.