مراتب الإدراك وتعريف العلم الحصولي - الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
العلم(1)
تمهيد :
قلنا : إن الله - تعالى - خلق الإنسان مفطورا على التفكير مستعدا لتحصيل المعارف بما أعطي من قوة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات(2).
ولا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه ، مقدمةً لتعريف العلم ولبيان علاقة المنطق به ، فنقول :
[ مراتب الإدراك ]
1 - العلم الحسي
إذا ولد الإنسان يولد وهو خالي النفس من كل فكرة وعلم فعلي سوى هذا الاستعداد الفطري . فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس ، نراه يحس بما حوله من الأشياء ويتأثر بها التأثر المناسب ، فتنفعل نفسه بها ، فنعرف أن نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها " العلم " وهي العلم الحسي الذي هو ليس إلا حس النفس بالأشياء التي تنالها الحواس الخمس : الباصرة ، السامعة ، الشامة ، الذائقة ، اللامسة.
وهذا أول درجات العلم ، وهو رأس المال لجميع العلوم(3) التي يحصل عليها الإنسان ، ويشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواس أو بعضها .
2 - العلم الخيالي
ثم تترقى مدارك الطفل فيتصرف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده ، فينسب بعضها إلى بعض : هذا أطول من ذاك ، وهذا الضوء أنور من الآخر أو مثله . . . ويؤلف بعضها من بعض تأليفا قد لا يكون له وجود في الخارج ، كتآليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها ، فيتخيل البلدة التي لم يرها مؤلَفةً من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان .
وهذا هو " العلم الخيالي "(4) يحصل عليه الإنسان بقوة الخيال ، وقد يشاركه فيه بعض الحيوانات .
3 - العلم الوهمي
ثم يتوسع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات ، فيدرك المعاني الجزئية التي لا مادة لها ولا مقدار ، مثل حب أبويه له وعداوة مبغضيه ، وخوف الخائف (5) ، وحزن الثاكل ، وفرح المستبشر . . .
وهذا هو " العلم الوهمي " يحصل عليه الإنسان كغيره من الحيوانات بقوة الوهم . وهي - هذه القوة - موضع افتراق الإنسان عن الحيوان ، فيترك الحيوان وحده يدبر إدراكاته بالوهم فقط ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوة والحول المحدود .
4 - الإدراك العقلي
ثم يذهب هو - الإنسان - في طريقه وحده متميزا عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حد لها ولا نهاية ، فيدبر بها دفة مدركاته الحسية والخيالية والوهمية ، ويميز الصحيح منها عن الفاسد ، وينتزع المعاني الكلية من الجزئيات التي أدركها ، فيتعقلها ويقيس بعضها على بعض ، وينتقل من معلوم إلى آخر ، ويستنتج ويحكم ، ويتصرف ما شاءت له قدرته العقلية والفكرية .
وهذا العلم الذي يحصل للإنسان بهذه القوة هو العلم الأكمل الذي كان به الإنسان إنسانا ، ولأجل نموه وتكامله وضعت العلوم والفت الفنون ، وبه تفاوتت الطبقات واختلفت الناس .
وعلم المنطق وضع من بين العلوم لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة خوفا من تأثير الوهم(6) والخيال عليها ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها .
تعريف العلم
وقد تسأل على أي نحو تحصل للإنسان هذه الإدراكات ؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشئ ، ولزيادة التوضيح نكلفك أن تنظر إلى شئ أمامك ثم تطبق عينيك موجها نفسك نحوه ، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه ، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة - مثلا - ثم سددت اذنيك موجها نفسك نحوها ، فستحس من نفسك كأنك لا تزال تسمعها . . . وهكذا في كل حواسك .
إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيدا يسهل عليك أن تعرف أن الإدراك أو العلم إنما هو انطباع صور الأشياء في نفسك ، لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة (7) .
ولذلك عرَّفوا العلم بأنه " حضور صورة (8) الشئ عند العقل (9) . أو فقل : " انطباعها في العقل " لا فرق بين التعبيرين في المقصود .
مصدر هذا المقال: كتاب المنطق ، الشيخ محمد رضا المظفر ، طبعة مؤسسة النشر الاسلامي ، ص 10 - 13
______
الهوامش
(1) الفرق بين العلم الحضوري والعلم الحصولي
* المبحوث عنه هنا هو العلم المعبر عنه في لسان الفلاسفة ب " العلم الحصولي " . أما " العلم الحضوري " - كعلم النفس بذاتها وبصفاتها القائمة بذاتها وبأفعالها وأحكامها وأحاديثها النفسية ، وكعلم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته - فلا تدخل فيه الأبحاث الآتية في الكتاب ، لأنه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه ، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجي العيني للعالم ، فان الواحد منا يجد من نفسه أنه يعلم بنفسه وشؤونها ويدركها حق الإدراك ، ولكن لا بانتقاش صورها ، وإنما الشئ الموجود هو حاضر لذاته دائما بنفس وجوده ، وكذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها . فيكون الفرق بين الحصولي والحضوري :
1 - إن الحصولي هو حضور صورة المعلوم لدى العالم والحضوري هو حضور نفس المعلوم لدى العالم .
2 - إن المعلوم بالعلم الحصولي وجوده العلمي غير وجوده العيني وإن المعلوم بالعلم الحضوري وجوده العلمي عين وجوده العيني .
3 - إن الحصولي هو الذي ينقسم إلى التصور والتصديق والحضوري لا ينقسم إلى التصور والتصديق
ملاحظة:
1 - الهوامش التي رمزنا إليها بعلامة ( * ) موجودة في الطبعات السابقة ، والظاهر أنها من
المؤلف ( قدس سره ) .
2 - أقول : والفرق الرابع : أن العلم الحصولي يقبل الخطأ والعلم الحضوري لا يقبل الخطأ .
(2) جمع " العجماء " : البهيمة .
(3) العلم الحسي وإن كان أول درجات العلم وبه يستعد الإنسان لإدراك ما سواه من الدرجات المتعالية ، إلا أنه ليس رأس المال للعلوم التي يحصل عليها الإنسان ، بل الذي هو رأس المال لجميع العلوم إنما هي البديهيات أعم من أن تكون بديهيات تصورية أو تكون بديهيات تصديقية ، فإن الإنسان إنما يكتسب العلوم التصورية النظرية بالاستعانة بالتصورات البديهية ويكتسب العلوم التصديقية النظرية بالتمسك بالتصديقيات البديهية .
(4) لا يخفى عليك : أنه ( قدس سره ) خلط الخيال بالمتخيلة ، فإن ما ذكره من الأفعال إنما هي للمتخيلة التي تسمى متصرفة أيضا . وأما العلم الخيالي فهو ما يحفظ في الذهن من صور المحسوسات بعد زوال الاتصال بالمحسوس الخارجي . راجع الشفا : 6 / 36 وأسرار الحكم : ص 221 .
(5) لا يخفى أنه ليس المراد درك الخائف وجود خوفه وإلا لكان علما حضوريا بل المراد درك مفهوم الخوف مضافا إلى خائف خاص أعم من أن يكون هو نفسه أو غيره ، حتى يكون من المفهوم المضاف إلى جزئي وهو العلم الوهمي ، وهكذا في خزن الثاكل وفرح المستبشر .
(6) قال في أسرار الحكم ص 222 : إذا لم يكن الوهم كالكلب المعلم فإنه يتنازع مع العاقلة ، ويحكم بخلافها ولا يذعن لأحكام العاقلة .
(7) على ما يراه الفهم الساذج المتعارف ، وإلا فلا صورة حقيقية في المرآة ، وإنما هي في ذهن الرائي فقط بتوسط المرآة .
(8) في معنى الصورة راجع رسالة التصور والتصديق : ص 4 .
(9) أي عند الذهن ، أعم من قوة الحس والخيال والوهم والقوة العاقلة .
رابط قناتنا على التيليجرام