الطقس الحسيني بين التشكيك والاعتقاد - السيد
مهند مصطفى جمال الدين
ملاحظة : هذا البحث القيِّم نشره الكاتب على شكل حلقات في أزمان
مختلفة قمنا بجمعها هنا إتماما للفائدة وتركناها كما هي من التصرف فيها .
الحلقة الاولى
قال الامام الصادق(ع) : ما من أحدٍ قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلا أوجبَ الله له الجنّة وغفر له.
ان القارئ لهذا النص ولنصوص كثيرة جدا متقاربة منه ، سيصل الى حقيقة
يثبتها النص ، وهي ارتباط البكاء والحزن والجزع وغيرها من المظاهر العاطفية
باستشهاد الامام الحسين (ع) وهو ما قامت عليه سيرة المسلمين الشيعة المستمرة الى
زمن الائمة المعصومين من تلازم القضية الحسينية مع البعد العاطفي الحزين واقامة
مجالس العزاء عليه، اذ يعد ذلك تعظيما وتكريما للميت ، وقد ظهر ذلك الامر واضحا في
مقولة النبي يوم استشهد عمه حمزة بن عبد المطلب حيث قال : (ميتٌ لا بواكي عليه لا
اعزاز له) ، ولا نحسب ايضا ان النبي حين قال في جعفر الطيار بعد استشهاده في معركة
مؤته (على مثل جعفر فلتبكي البواكي) لا يقول ذلك في حسينه الذي قال فيه: (حسين مني
وانا من حسين) .
ولكن كيف يمكن ان يتحقق البكاء والإبكاء ويبقيا متقدين لمدد زمنية
طويلة ، ففي الجانب النفسي ان الانسان حينما يفقد عزيزا عليه تبرد حرقة الحزن بعد
فترة وجيزة، لكنها تتأجج برؤية صورة ما او استذكار موقف ما او تخيل حوادث مرتبطة
بذلك الشخص ، بمعنى ان الانسان يحتاج الى مثير يحرك مشاعره ويأجج عاطفته ، ولا يتم
هذا الامر الا باعادة تخيل حدث الفقد ، واحسب ان البكاء على الحسين يتحرك في هذا
الاتجاه ، ففلسفة البكاء -التي سنفرد لها بحثا خاصا- تستلزم ابقاء العاطفة متأججة
، اذ اوصى النبي والائمة المعصومون بالبكاء وابكاء الاخرين، حتى غدا مفهوم البكاء
على الحسين مطلبا مندوبا ، فقد روي عنهم عليهم السلام ( ان لقتل الحسين حرارةً في
قلوب المؤمنين لا تبرد ابدا)..
من هنا تتولد مجموعة من النقاط منها :
1- ان الحرارة
مختصة بقتل الحسين وطريقة قتله ، وهي طريقة مؤلمة وفاجعة كبرى بحق الانسانية ،
اهتزت بها اظلة العرش وبكى لها جميع الخلائق في السماوات والارضين.
2- ولأنها فاجعة
عظيمة فقد ولّدت حرارة في قلوب المؤمنين فحسب ، اذ لم يقل (المسلمين) ، والقلب
مستودع العاطفة التي لابد ان تتأجج بمثير ما .
3- كيف نحقق ارادة النبي والائمة في ابقاء الحرارة من دون ان تبرد .
4- يلحظ ان النصوص اعطت توصيفا لطبيعة تعامل المؤمن مع البكاء والحرارة على قتل الحسين ولم تشر او تحدد ادوات تحقق البكاء والحرارة ، بمعنى انهم اوصونا بابقاء حرارة البكاء وتركوا لنا اختيار الادوات التي تبقي جذوة البكاء والحرارة متقدة ابداً.
5- وبناء على ما
توصلنا اليه، نجد المؤمنين قد ابتكروا اليات تتسق والطبيعة البشرية لادامة الحرارة
، وقد امضى الائمة تلك الابتكارات ولم يعترضوا عليها ، بل ان عدم ذكرهم لتفاصيل
الواقعة يؤكد قبولهم لتلك الابتكارات وابقاءها مفتوحة للمخيال الانساني بانساقه
المتعددة: الادبية والشعبية والفنية والاجتماعية والثقافية وتجلياتها المختلفة، لا
سيما في القصيدة والسرد القصصي والفلكلور الشعبي .
6- ويمكن ان ندعم الفكرة المتقدمة بما نقل عنهم انهم اقاموا مجالس العزاء وكانوا يطلبون من الشعراء انشاد قصائدهم بطريقة حزينة تثير العواطف والبكاء ، وكان يذكر في اغلب القصائد تفاصيل لم يرها الشاعر بعينه، غير ان الامام لم يعترض عليه ، وهو ما حدث لدعبل حينما انشد قصيدته الشهيرة في مجلس الامام الرضا(ع)
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا
وقد مات عطشانا بشط فرات
إذا للطمت الخد فاطم عنده
وأجريت دمع العين في الوجنات
7- هذا النوع من الاستدلال كاف باسكات الاصوات التي تظهر علينا بآراء ، ظاهرها تصحيح المسار ، من خلال التشكيك بما يقال في المجالس الحسينية والمنابر بذكر تفاصيل واقعة الطف..
الحلقة الثانية
نجيب في هذه الحلقة عن الاشكالات التي يزعم اصحابها تصحيح المسار
لمجالس ومنابر الحسين والتي اختصت بذكر تفاصيل واقعة الطف ...
وقد ذكرنا في الحلقة السابقة ان المؤمنين قد ابتكروا اليات تتسق
والطبيعة البشرية لادامة الحرارة ، وقد امضى الائمة تلك الابتكارات ولم يعترضوا
عليها ، بل ان عدم ذكرهم لتفاصيل الواقعة يؤكد قبولهم لتلك الابتكارات وابقاءها
مفتوحة للمخيال الانساني بانساقه المتعددة: الادبية والشعبية والفنية والاجتماعية
والثقافية وتجلياتها المختلفة، لا سيما في القصيدة والسرد القصصي والفلكلور الشعبي
،
وهذا هو المبنى الاساس الذي نعتمد عليه في قراءتنا هذه ، وهو ان كل
ما يقرأ وينشد ويمارس في ايام الحزن مأذون به من قبل الائمة ، ولكن شرط ان لا يخرج
عن الضوابط الشرعية ولا يتجاوز الحد المسموح به ، وهنا يأتي دور العلماء المتخصصين
، كون القضية الحسينية قضية دينية ، فالمتخصص وحده من يقول هذا مسموح به وهذا غير
مسموح به....
واما المشككون في التفاصيل فان افضل ما عندهم هو ان بعضها مذكور في
كتب المتأخرين ولم يذكر في كتب المتقدمين، ويمكن ان نجيب عليهم بالآتي :
اولا: ان طبيعة التعامل المنهجي مع الرواية التاريخية يختلف في
معاييره وضوابطه عن الروايات الفقهية ، ففي الاخيرة نبحث عن السند ووثاقة رجاله،
لاننا نطلب منها حكما شرعيا يحدد لنا موقفا عمليا يترتب عليه الحلال والحرام ،
بخلاف الرواية التاريخية التي لها قواعدها وضوابطها المختلفة ، فالروايات الموجودة
في كتب التاريخ في الغالب لا يحقق في سندها لعدم تحقق ثمرة عملية في ذلك ، بل يكفي
وجود اطمئنان ما ناتج عن توفر قرائن محفوفة بالرواية او بغيرها .
ثانيا : حينما تنقل رواية في كتاب حديث من دون ان يشير المؤلف الى
المصادر او السند فان ذلك لا يكون مسوغا لتهديمها وتهديم الكتاب، اذ من المحتمل ان
المؤلف قد تعامل معها على وفق شرائط الروايات التاريخية، او انه قد اطلع على
المصدر ولم يذكره ، وهناك امثلة كثيرة لذلك .
ثالثا: بل حتى في كتب الاحاديث نجد روايات مرسلة كمراسيل الصدوق
وغيره ، فهل يحق لنا ان نلقي بما ارسله الصدوق بسلة المهملات لعدم وجود السند .
رابعا : نعم يمكن ان تتعامل انت بحسب مبناك وتصف الرواية المرسلة
بانها غير حجة ، ويمكن ان يكون التعامل مع الروايات التاريخية كما نتعامل مع
الروايات المرسلة ، ولكن ليس من حقك ان تصفها بانها مكذوبة .
خامسا: هناك مبنى فقهي يعتمد عليه بعض الفقهاء والاكادميين وهو الاخذ
بكل ما موجود في الكتب الاربعة مثلا، والامر ذاته موجود عند المدرسة السنية التي
تعتمد على روايات الصحاح من دون الرجوع الى السند لوجود الاطمئنان الكافي بان
المؤلف لا يمكن ان يسند الرواية لغير النبي او الامام ، وهذا الاطمئنان يمكن ان
يكون قائما عند البعض ممن يجدون تفاصيل عاشوراء في كتاب بحار الانوار مثلا ، اذ
القضية قضية اطمئنان فحسب .
سادسا : استقر في الدرس العلمي اختلاف المباني الفقهية في اخذ
الروايات، فمنهم لا يحقق في السند كثيرا، ومنهم من يستدل بمضمون النص بكونه لا
يصدر الا من نبي او امام معصوم ، وعلينا احترام المباني وعدم تسفيهها او تهديمها
او السخرية منها
.
سابعا: نجد بعض المشككين يقعون في الاضطراب المنهجي فيسقطون بما
يشككون به، باعتمادهم الانتقائية غير المنضبطة بترجيح رواية على اخرى، على الرغم
من ان الروايتين تتطابقان بوصفهما روايتين تاريخيتين..
ثامنًا: تحشيد جهود المشككين لنفي بعض الامور التي وردت في روايات
المقتل مثل عطش الامام واولاده وانصاره ، على الرغم من ان انكارها لا يفضي الى
غاية سوى التهديم الذي يعد عتبة يطمحون من ورائها تهديم امر اكبر ، والا مالذي
يتوخاه باحث يحسب على مدرسة اهل البيت بتحويل قلمه الى معول تهديم وفأس يقطع بها
اغصان الشجرة ليصل الى اقتلاع جذورها .. والغلبة دائما وابدا للحسين وليس للحاكمين
والطغاة والاقلام المهدمة سوى الخيبة والانكسار..
وللحديث بقية
الحلقة الثالثة : عطش الحسين واصحابه
إن القراءة التاريخية لها منهجان : الأول منهما يتمثل بسرد الاحداث
وتسجيل الوقائع والقصص، اما الثاني فانه يعمد الى تفسير الاحداث وتحليلها والربط
بينها برؤية قائمة على فهم الاحداث ضمن انساقها، وهذا هو المنهج الأهم ، فحينما
تتوافر مجموعة من الروايات التي تثبت واقعة ما، منسجمة فيما بينها بنسب تفضي الى
الاطمئنان بوقوعها، بحيث يمكن ترتيب الاثار عليها والافادة منها في القراءات
الموضوعية، فحينئذ لا يزعزع الاطمئنان وجودُ روايات اخرى وبنسب قليلة يشك بوجودها،
ولكن يدعي المعارض بانها مستحدثة ومضافة الى النصوص الكثيرة.
وعلى هدي ذلك يمكن قراءة مقتل الامام الحسين واصحابه، الذي ذكرته كتب
التاريخ المعتبرة، والتي تحظى بمقبولية عند الطرفين، بل اننا نعتمد في المقتل على
اهل السنة، اذ لا وجود لكتاب شيعي مختص بعلم التاريخ ، وقد ذكرت في تلك الكتب
تفاصيل عديدة مشتملة على صور مؤلمة ومفجعة، وهي كافية لاثبات ما حصل في كربلاء،
بما نتداوله اليوم ، ليكون سببا رئيسا في تشكيل الوعي الحسيني بكل تجلياته
المعاصرة.
والحقيقة الثابتة بهذه النسبة الكبيرة من الروايات المعتبرة لا يضرها
ادعاء وجود روايات اخرى مضافة لها، بحيث يحاول المقتنص لها ايهام المتلقي بضعف
الرواية الاصلية وتعميم التشكيك الى كل الروايات، وهو ما يحصل فعلا من بعض
المشككين، كنفي عطش الامام الحسين واصحابه، والتشكيك بمرض الامام زين العابدين،
والتشكيك بتجلد وصبر السيدة زينب بنت علي، وغيرها من الامور التي حاولوا من خلالها
زحزحة الوقائع الحقيقية الواردة في كتب القدماء.
ولكن اذا افترضنا جدلا وجود بعض الماء في معسكر الحسين عشية مقتله،
فهل يغير هذا الامر ما اثبته التاريخ من وحشية وبربرية قاتلي الامام، وهل يغير من
موازين الحق والباطل، وهل سيمحو من الاذهان صراخ الاطفال والنساء والجرأة على اهل
البيت بحرق الخيام واخذ النساء سبايا، بل ان مجرد حز رأس الامام وأخذه هدية الى
الطاغية يزيد كافية بأن يعطينا تصورا واضحا عما حصل، ويكشف حقيقة البرابرة الذين
قتلوا الامام ، وبسبب ذلك الفعل اتسم تعامل المفجوعين والمحبين لامامهم مع استذكار
واقعة كربلاء بهيمنة البعد العاطفي وغلبة مظاهر الألم والحزن لما وقع.
وعلى الرغم من اعتقادنا بما اثبتناه سابقا من ان هذه المفردات
القليلة التي تعتمد التشكيك لا تغير من الواقع شيئا، مع ذلك سنجيب في الحلقة هذه
عن بعضها، ونبدأ بمفردة عطش الامام واصحابه التي حاول المشككون نفيها، ويمكن
الجواب عنها بما يأتي:
1- نقل الطبري في تاريخه (ج4ص311) قال أبو مخنف: ((حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث، ونازله عبد الله بن أبي حصين الأزدي - وعداده في بجيلة - فقال: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا فقال حسين : اللهم اقتله عطشا، ولا تغفر له أبدا. قال حميد بن مسلم: والله لعدته بعد ذلك في مرضه، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى بغر، ثم يقيء، ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصته يعني نفسه)) .
2- نقل الطبري (ج4ص343) ((قال هشام: حدثني عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قال: عطش الحسين حتى اشتد عليه العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن نمير بسهم، فوقع في فمه)).
3- وقال الطبري
(ج4ص444) : ((حدثني من شهد الحسين في عسكره ان حسينا حين غلب على عسكره ركب
المسناة يريد الفرات فقال رجل من بني ابان بن دارم ويلكم حولوا بينه وبين الماء لا
تجتمع عليه من شيعته، قال وضرب فرسه واتبعه الناس حتى حالوا بينه وبين الفرات،
فقال الحسين اللهم أظمه.. فوالله ان مكث الرجل الا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ
فجعل لا يروى قال القاسم بن الاصبغ لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد له فيه
السكر وعساس فيها اللبن وقلال فيها الماء وانه ليقول ويلكم اسقوني قتلني الظمأ
فيعطى القلة او العس فيشربه فاذا نزعه من فيه اضطجع الهنيئة ثم يقول ويلكم اسقوني
قد قتلني الظمأ قال فما لبث الا يسيرا حتى انقد بطنه انقداد بطن البعير)) .
4- ونقل الطبري
(ج4ص326) قول الحربن يزيد الرياحي )) يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر اذ دعوتموه
حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه،
أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله
العريضة، حتى يأمن ويأمن اهل بيته واصبح في ايديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا
يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه
اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم، وهاهم قد صرعهم
العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ)) .
5- وذكر الخوارزمي
في مقتله (ج2ص26))) ورجع علي بن الحسين إلى أبيه فقال : «يا أبت العطش قد قتلني ،
وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوى بها على ألأعداء ، فبكى
ألإمام الحسين ، ثم قال : يا بني يعز على محمد وعلى علي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا
يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك، يا بني هات لسانك، فأخذ بلسانه فمصه، ودفع إليه
خاتمه وقال : «خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك ، فإني أرجو أنك لا تمسي
حتى يسقيك جدك بكأسه ألأوفى شرية لا تظمأ بعدها أبدا)) .
الحلقة الرابعة : خلود الحسين
اتفقت معظم النظريات الفكرية والمعرفية على ان لكل باحثٍ مسبقاته
التي ينطلق منها وغاياته التي تتأسس عليها رؤيته ويتكون منها وعيه، ليكون مجبرا
بالانصياع لها..
لكن ذلك لا يلغي البعد العلمي والموضوعي الواجب توافره في البحث ،
وهذا البعد يجعل الباحث الحقيقي محكوما بمحددات تكاد تكون قهرية، تحرره من سجن
التفكير المنحاز، او مايعرف بأدلجة الوعي...
واحسب ان قراءتنا للطقس الحسيني كشفت زيف الادعاء العلمي والغطاء
الموضوعي والغاية التي يتعكز عليها خطاب المشككيين ، اذ ارتكزنا على محددات علمية
ومنهجية وطرحنا الاحتمالات القائمة على النفي والاثبات من دون الانصياع الاعمى
لمحددات منهجية وضعت نتائجها مسبقا ، وهو مادارت عليه رؤية المشككين بما يعرف بليّ
عنق النص لا بفعل غلبة مداراته الفكرية، وانما بسبب وضعه غايات التهديم، اساسا
ومرتكزا لقراءاته
.
ولو كنا امام باحث مادي او اشتراكي او غيرهما فاننا سنتفهم مداراته
الفكرية التي حددت طبيعة وعيه، ومن ثم يتضح اثرها في تفسير القضية الحسينية، فلن
نستغرب اذا حددها بمجالات تتعلق بزاوية نظره المنسجمة مع رؤيته .
أما تبني باحث يستقي وعيه بحسب ادعائه من منظومتنا المعرفية والدينية
ذاتها ويرتكز على المباني نفسها، ولكنه مع ذلك يعمل على محاولة تهديمها ، فان ذلك
يفضي الى اعترافه ضمنا بأن حركته البحثية ليست الا للهدم والتفكيك والتشويش
والاضطراب ، وصولا الى محو المرتكزات واقتلاعها.
وهذا الباحث لم يكن هو الاول ولن يكون الأخير ، بل انظمة الجور
بعددها وعديدها منذ نظام بني امية الذي استمر بعد مقتل الحسين سبعين سنة ونظام بني
العباس وغيرهما والانظمة العصرية المعادية للحسين التي جندت الاف الوسائل لمحو
الطقس الحسيني فكلها لم تستطع اخماد شعلته، بل انها راحت تتوهج اكثر فأكثر كلما
استطال الزمن وامتد ، الامر الذي يستوقف الباحث الموضوعي ويدفعه لتسخير ادواته
البحثية كي يعلل بقاء الظاهرة الحسينية الى يوم الناس هذا.
واحسب ان التعليل المادي سيظل عاجزا عن التفسير ، ما لم يرتبط بالبعد المعنوي او الروحي او الغيبي ، فان الله اراد للقضية الحسينية الخلود فخلدت، وكأنها مصداق لقوله تعالى : ((يرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون))..
ولا يغيب عن الوعي لمن يخاطبنا بالوعي والتعقل ان قضية الحسين
المستمرة لم يكن دوامها بسبب التعبئة المذهبية -وان كان ذلك لا يتعارض مع المبدأ
الاسلامي- ولكنها ليست كذلك ، اذ الحسينيون اليوم يمتلكون الوعي الكافي وينتقدون
كل شيء وفي كثير من الاحيان لا يقتنعون ببعض الاراء وبعض المظاهر التي لا يرونها
منسجمة مع العصر، وينقسمون فيما بينهم باتباع مرجعيات مختلفة فيما بينها لكنهم
يتحدون في طريق الحسين ..
ولو افترضنا ان هناك جهة مذهبية او رسمية او شعبية تبنت تنظيم القضية
الحسينية وتحشيدها ورسم اهداف تتلاءم مع توجهاتها لما تمكنت من ذلك وستبوء بالفشل ..
والواقع الذي نعيشه شاهد على ما نقول ..
بل التاريخ شاهد على ان كثيرا من التحشيد المذهبي او الديني لرموز
وشخصيات وظواهر معينة لم يدم طويلا وانطفأت كل محاولاته ولم يبق لها شيء يذكر مع
كل الامكانات الهائلة التي تم تسخيرها لذلك..
وحسب حسيننا انه كان لله وما كان لله يبقى وينمو ، واما الزبدُ فيذهب
جُفاء..
الحلقة الخامسة: علي بن الحسين (زين العابدين)
ان الايمان بالغيبيات بديهة انسانية لا تقتصر على الجانب الديني
فحسب، فهناك معارف غير مرئية ولا وجود لها في عالم الحس، ولكن الانسان يسلم ويذعن
لها، من قبيل الجسيمات الفيزيائية التي لا ترى حتى بالمجهر، غير ان البحث العلمي
اوصلنا اليها وصيرها من المعارف البديهية، ويمكن ان نسحب ذلك الى المسألة الغيبية،
اذ يتعامل العقل الديني مع الغيب في اطار المنظومة الوجدانية، وقد يستدل كثير من
الباحثين ب(الوجدان) حينما لا يتمكن من اقامة الدليل المادي على مدعاه.
وتأسيسا على ما قدمناه نرى ان كثيرا من المسائل المتعلقة بحركة
الامام الحسين تفسرها المسائل الاعتقادية الغيبية، التي تنقح في علم الكلام وبرتبة
سابقة، من قبيل الايمان بالتوحيد او بنبوة الخاتم وبعصمة الائمة عليهم السلام،
وغيرها من المسائل التي يرتكز اليها البعد الغيبي والوجداني، ولأن حركة الامام
الحسين حركة دينية انسانية ، لابد من النظر اليها بكونها منظومة متكاملة من دون ان
تتجزأ، حيث تشتمل على ابعاد غيبية وروحية واجتماعية وفكرية ونفسية وغيرها، وهذه
الابعاد تترابط فيما بينها ترابطا عضويا، ولا يمكن الغاء اي عنصر او فصله، لان ذلك
يؤدي الى احداث خلل في المنظومة بأكملها، وهو ما وقع به بعض الباحثين، فلا يمكن
للباحث الموضوعي ان ينتقي موضوعات محددة ذكرت ببعض الكتب التاريخية ويرتب عليها
نتائجه المسبقة والمنطلقة من منهج يعتمد التجزئة، بارتكازه على الماديات ورفض كل
امر غيبي، مع انهما باعتقادنا متلازمان، وكذا الحال بمن يقتصر على الجانب الغيبي
فحسب.
فلا يجوز للباحث الموضوعي ان يقصر الحسين على رؤياه وان كانت مشتملة
عليها، فالحسين ليس ثائرا فقط ولا سياسيا فقط ولا واعظا فقط ولا مضحيا فقط بل هو
كل ذلك وغيره
.
وأجد ان هذا التمهيد ضروريا لازالة ما قد يفسره بعض القراء بتشديدنا على
بعد دون غيره، فعندما نركز على جانب الغيب مثلا فاننا لا نسلخه من المنظومة
المتكاملة لقضية الحسين عليه السلام .
وخير دليل على توظيفنا للبعد الغيبي في قراءتنا هذه رواية المسعودي (346هـ) فقد روى في كتاب (اثبات الوصية) ص167(( ثم أحضرَ علي بن الحسين وكان عليلا فأوصى اليه بالأسم الاعظم ومواريث الانبياء وعرفه ان قد دفع العلوم والصحف والمصاحف والسلاح الى ام سلمة واسرها ان تدفع جميع ذلك اليه)). والانصاف اننا سنقف عند هذه الرواية وغيرها متأملين في وصية الحسين لابنه علي بن الحسين (زين العابدين) عليهما السلام في يوم استشهاده على الرغم من ان الاعداء لم يستثنوا احدا من القتل، وعلى الرغم من وجود اخوته ووجود علي الاكبر، فقد يستفهم ب(لم وقع الاختيار على زين العابدين) .
ونحسب ان المنطق المادي سيقف عاجزا عن ايجاد علة مقنعة، الا اذا آمنا
بان الحسين يعلم بمن يليه اماما معصوما، ويعلم بأن الله سيتكفل بحفظه من الاعداء.
وهناك روايات تناقلتها كتب الاحاديث عن وصية الامام الحسين لابنه السجاد وهي اكثر من ان تحصر ، ففي (الكافي ج1 ص304) مارواه ابو بكر الحضرمي عن ابي عبد الله عليه السلام قال : ((ان الحسين صلوات الله عليه لما صار الى العراق استودع ام سلمة رضي الله عنها الكتب والوصية، فلما رجع علي بن الحسين عليه السلام دفعتها اليه)) .
وقد اشار الاعلام وجلّ معاصريه من العلماء انه عليه السلام كان اهلا للامامة العظمى، فقد قال الذهبي في سير اعلام النبلاء(ج4 ص398) (كان له جلالة عجيبة وحق والله ذلك فقد كان اهلا للامامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله)، وقال الزهري (اوجز المسالك الى موطأ مالك ج2ص76) : (مارأيت قرشيا افضل منه ..وفضائل زين العابدين ومناقبه اكثر من ان تحصر)، وقال سعيد من المسيب وهو من معاصريه (المختصر من تاريخ الاسلام ص128): (ما رأيت قط افضل من علي بن الحسين) .
وقد ذكرت كتب التاريخ ان علي بن الحسين كان حاضرا وممن شهد واقعة
كربلاء، وتكاد تجمع المصادر انه كان مريضا، وان شكك بمرضه بعض من يدعي البحث
الموضوعي، وجعل من تشكيكه منطلقا، ليتجاسرعليه، وأخذ ينعته بصفات لا تتلاءم مع
عظمته التي أفاض بها علماء عصره - ومن الفريقين- بالثناء عليه واحترامه وتبجيله.
والملاحظ ان بعض روايات مرض الامام كانت بنقل الامام نفسه، حيث روى
الطبري (ج5ص318) ((عن علي بن الحسين قال : اني جالس في تلك العشية التي قتل ابي
صبيحتها وعمتي زينب عندي تمرضني ...)) فالامام في رواية الطبري هو من يقول عن نفسه
انه كان مريضا، ومن عرف زين العابدين- بحسب اقوال العامة والخاصة فيه- حتما انه
سيصدق قوله: بأن عدم قتله هو المرض مع الجنبة الغيبية التي نوهنا عنها في اعلاه،
لا ما يذكره البعض بتفسير مريض جدا، اذ علل عدم قتله يعود الى اسباب سايكولوجية
ونفسية، وهو يوحي بهذا الى جبن الامام ضمنا، الامر الذي يُبعد ذلك الباحثَ عن
الموضوعية والعلمية .
وكيف كان: فمن يصل الى النتيجة التي ذكرها ذلك المشكك، عليه أن يمتلك شجاعة كافية ويصرح بعدم ايمانه بالامامة والعصمة من دون ايهام المتلقي بوجود غايات تصحيحية من داخل المذهب.