كتب السيّد حسين الحكيم
وردني السؤال التالي: ماذا قدم شيعة الإمام من بعد استشهادة الى الان للانسانية وليس للشيعة فقط ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
[ الشيعة كمكوّن اجتماعي ]
ما المقصود من الشيعة الذي يراد منهم ان يقدموا للبشرية إنجازات ومكاسب ؟
تارة يكون القصد من الشيعة هو المكوّن الاجتماعيّ الذي له وجود واسع في بلدان عديدة وكبيرة في العالم، وهنا لا بدّ أن يُقيَّم هذا المكوّن بحسب ظروفه وفرصه وإمكاناته، وكي يكون التقييم موضوعيّاً فمن الضروري أيضاً أن تتمّ المقارنة بينه وبين المكونات الأخرى المشتركة معه في كل بلد.
وأيضا تُلاحَظ التحدّيات التي تواجهه ومن أهمها التحدّي الطائفيّ الذي واجهه الشيعة -وكان مدعوماً بقوّة من دول كبرى- الذي أعلن بصفاقة وحماقة نادرتين عن أن عدوّه الأول هو الشيعة وكان هؤلاء التكفيريون والطائفيون يمارسون العدوان المنقطع النظير ولسنوات طويلة عبر القتل والتهجير تحت عنوان (لا شيعة بعد اليوم) أبان الحكم الصداميّ، وعبر المفخخات والاحزمة الناسفة التي قتلت عشرات الألوف منهم في شوارعهم ومدارسهم ومساجدهم وحتى في مساطر عمّالهم، ثمّ من خلال مشروع داعش وجرائم الإبادة الجماعيّة الكبرى التي يعرفها الجميع، مع وقوفٍ أشبه بموقف المتفرج من (البشريّة) التي ورد في السؤال أن الشيعة ماذا قدموا لهم!
وكأنّ على الضحايا أن يقدّموا للآخرين حتى إن أعياهم نزف الجراح!!.
ومع كلّ ذلك وجدنا منهم كمواطنين وكجماعات في أوطانهم المختلفة مواقف إنسانيّة مشرّفة يطول المقام بتعدادها وإن كانت لديهم أيضاً سلبيّات تشابه عادةً سلبيّات شركائهم ممّا يكشف أنّها سلبيّات الإنسان وظروفه، وليست سلبيّات المذهب وقِيَمِهِ.
[ الشيعة كمذهب ديني إسلامي ]
وتارة يكون القصد في السؤال عن (الشيعة) ملاحظتهم كمذهب ديني إسلامي له ملامحه العامّة التي تظهر في رؤاه الفكريّة، ومرجعيّته الدينيّة، وشعائره الحسينيّة، واعتداله وانفتاحه على المذاهب والأديان والطوائف، فهنا الجواب بإيجاز شديد أنّه يكفي إنجازاً لشيعة عليّ (عليه السلام) أنّهم حفظوا عليّاً (عليه السلام) حين ضيّعه الناس.
وتوضيح ذلك :
لقد قتل عليٌّ أمير المؤمنين -الذي تخضع له البشريّة اليوم باحترام منقطع النظير- في محرابه، والزهد زينة بيته، والعدل منهاج عمله، والصلاة آخر كلماته ولم يسعه ظاهر الأرض كي يحيى فيه ولم يسعه باطن الأرض يومئذ كي يكون له منها قبر معروف .
إنّ الإمام علي (عليه السلام) سطّر ملحمة من العدل الفريد حتّى صار اسمه يفضح كلّ الأشرار والفاسدين والمستبدّين ممّا جعله هدفاً للتشويه والعدوان المستمر لأنّه كان في عصره وكل العصور يُلهمُ المستضعفين المضطهدين، و يتحدّى كل الطغاة الأقوياء.
وهذا ما يفسّر لنا السبب وراء اندفاع المشروع الأمويّ الذي يمثّل أوج طغيان عصره لطمس معالم مشروع عليّ فكان يتتبّع شيعته قتلا وتنكيلاً و ينال من عليّ (عليه السلام) ويلعنه على منابر المسلمين واستمرّ ذلك لمدّة سبعين عاماً من أجل القضاء النهائيّ على هذا المشروع، وكانت احدى فصول ذلك الاستهداف لمشروع عليّ قتلَ ولده ووارث مشروعه الإمام الحسين (عليه السلام) بذلك الشكل المروّع الذي كان -بحسب تصريحات القتلة المجرمين أنفسهم- (نقتلك بغضاً لأبيك عليّ).
ألا يكفي الشيعة أنّهم صمدوا في مقابل هذا الطغيان وشايعوا الإمام عليّ (عليه السلام) ومشروعه ومازالوا ولن يزالوا -وبإصرار تاريخيّ- ينتظرون وريثه المهديّ (عليه السلام) لكي يستعيد كلّ المنجزات التي قُتلت بقتل عليّ في محرابه وبقيت تُقتَل في قتل أيّ واحد من أولاده وأوصيائه من الأئمّة الذين قال قائلهم (ما منّا إلّا مقتول أو مسموم).
إنّ استمرارَ الإمام عليّ (عليه السلام) كمشروع يطلب الحقّ ولا يرضى بسواه، والتمسكَ بنهجه وبموالاته هو بنفسه عمل كبير ضحى الشيعة من أجله في كلّ العصور، وسبَّبَ لهم عدواناً مستمراً الى اليوم من قبل الظالمين .
إنّ عليّاً (عليه السلام) هذه الشخصيّة العظيمة لم يبق حياً حاضراً يزداد تألّقاً عبر العصور إلّا بسبب شدّة تمسّك شيعته به وإصرارهم على المحافظة على ميراثه من التشويه، ومن آخر الأدلّة على ذلك ما صدر من المرجع الأعلى السيّد السيستانيّ دام ظله من توصيات للمقاتلين الذين لبوا ندائه في الدفاع عن العراق الذي ذكر لي ولأكثر من واحد أنه انما اخذها واستنبطها من الإمام علي عليه السلام .
إنّ البشريّة اليوم تكاد تيأس من أيّ مشروع لإصلاحها وهي على حافّة الاستلام الكامل لنوازعها الذاتيّة ورغباتها الكامنة في التسلّط والاستغلال الطاغي الأعمى، ولهذا فهي اليوم أشدّ ما تكون حاجةً الى أن يبقى في داخلها الأمل بالمشروع العادل الذي يحيي فيها قيمها الأخلاقيّة.
باختصار شديد سأشير الى بعض الأمور التي يحتاجها الإنسان عبر العصور من عليّ عليه السلام وقد نجح شيعته رغم مرارة وكثرة التضحيات في المحافظة عليها كجزء أساس من الذاكرة البشريّة الحاضرة، ومنها :
١- كلماته الخالدة في كتاب نهج البلاغة الذي هو من أعظم الكتب التي عرفتها البشريّة في مفاهيمه وقيمه العليا التي تحتاجها في كل العصور، ويكفي منه على مستوى التنمية البشريّة الفرديّة وصيّته للإمام الحسن عليه السلام ، وعلى مستوى العدالة الاجتماعيّة عهده لمالك الأشتر .
ومازال التشكيك والتشويش الى عهد قريب يستهدف هذا الكتاب لولا جهود العلماء من الشيعة في الدفاع عنه وبيان كونه من كلام الامام علي (عليه السلام) حقّاً وحقيقة.
٢- مشروع العدل المنتظر فقد استمرّ مشروع عليّ (عليه السلام) الذي هو عين مشروع رسول الله صلى الله عليه واله في أولادهما الحسن والحسين وأبناء الحسين فكل ما انجزوه للبشرية فهو امتداد لعليّ عليه السلام .
ولولا شدّة تمسك الشيعة بهم وإحياء ذكرهم، وعمارة قبورهم بزياراتهم، وإقامة شعائرهم لم يبق منه إلّا الصور في بعض المتاحف العالميّة.
٣- كونه قدوة عالميّة، فإنّ علياً عليه السلام ضرب مثلاً لكلّ صاحب حقّ كبير يُظلم فيبقى مصرّاً على نصرة مشروعه العام وإن لم يكسب منه أيّ مكسب شخصيّ، بل وإن انتهكت حقوقه الشخصيّة باسم المشروع نفسه.
وبسبب هذا الإصرار الشيعي على التمسك بولاية أمير المؤمنين مازالت شخصيّة الإمام فاعلة مؤثّرة ملهمة للشعوب المختلفة، بل أصبحت تمثّل مشتركاً بشريّاً يبعث فيها القيم النبيلة يتعلّم الإنسان من سلوكه كيف يجمع فيه بين الأضداد فهو الشجاع التقيّ، وهو القويّ الرقيق مرهف الحس، وهو الحاكم المظلوم، وهو الواجد الزاهد.
هو البكّاء في المحراب ليلاً هو الضحّاك اذا اشتدّ الضراب
والخلاصة إنّ البشريّة عرفت بسبب هذه التضحيات والتمسّك بعليّ من قبل شيعته بالخصوص وكافّة المنصفين في العالم أنّ القيم يمكن أن تتجسّد، وأنّ الشرّ مهما عظم فالخير يمكن أن ينتصر في نهاية المطاف.
ولو لم يحقّق الشيعة كلّ شيء إلّا أنّهم حفظوا عليّاً وتراثه وساهموا بتعريفه للعالم لكفاهم بذلك إنجازا لا يضاهى .
حسين الحكيم
النجف الأشرف
في ذكرى الغدير ليلة ١٨ ذي الحجة ١٤٤١هـ