القائمة الرئيسية

الصفحات

نقد نظرية أنّ الوحي مرض عقلي ونفسي

 

نقد نظرية أنّ الوحي مرض عقلي ونفسي

من كتاب (محطات نبوية ) لسماحة الشيخ حيدر السندي (حفظه الله)

نقد بعض النظريات الحديثة في تفسير حقيقة الوحي

المحور الرابع : وهو في نقد بعض النظريات الحديثة في تفسير حقيقة الوحي ، وسوف يتضح أن بعض هذه النظريات قديم له جذور تاريخيّة تمتد إلى زمان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وقد تبنّى هذه النظريات ـ التي سوف نتعرض لها ـ جملة من المستشرقين .

 فنحن ـ المسلمون ـ  نعتقد أن الوحي تعليم إلهي خاص ، وقد يكون بوساطة ملَك ، و في مقابل هذه العقيدة توجد نظريات :

نظرية تفسير الوحي على أنه مرض عقلي ونفسي

النظرية الأولى : لثيوفان (باليونانيّة: Θεοφάνης Ομολογητής) المتوفى تقريباً في 820 م ، و تبعه  المستشرق النمساوي ألويس شبرنجر (بالألمانية: Aloys Sprenger) صاحب كتاب (حياة محمد وثقافته)(1) .

 وترى هذه  النظرية أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتلق شيئاً من الله تبارك وتعالى ، ولم ينزل عليه ملك، ولم يتصل بعالم الغيب ، وعملية تلقي الوحي في الحقيقة ليست إلا نوبات صرع كان يصاب بها النبي (صلى الله عليه وآله)  ، و اعتمد اشبرنجر في هذه النظرية في كتابه على روايات العامة الواردة في الحالات التي تصيب النبي (صلى الله عليه وآله)  حال نزول الوحي ، و هذه الروايات موجودة في كتاب البخاري وفي كتاب مسلم وفي سيرة ابن إسحاق وفي طبقات ابن سعد ، وغيرها، ومنها:

ما في البخاري وغيره: إنَّ الحارِثَ بنَ هِشامٍ سَأَلَ رَسولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)  فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، كيفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أحْيانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهو أشَدُّهُ عَلَيَّ، فيُفْصَمُ عَنِّي وقدْ وعَيْتُ عنْه ما قالَ، وأَحْيانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فيُكَلِّمُنِي فأعِي ما يقولُ، وفي آخر إنَّ الحارثَ بنُ هشامِ سألَ رسولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)  كيفَ يأتيكَ الوحيُ فقالَ رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)  يأتيني مثلِ صَلصلةِ الجرَسِ وَهوَ أشدُّهُ عليَّ وأحيانًا يتمثَّلُ لي الملَكُ رجلًا فيُكلِّمني فأعي ما يقول ، وفي ثالث َقالَ: أَحْيَانًا يَأْتِينِي في مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهو أَشَدُّهُ عَلَيَّ، ثُمَّ يَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُهُ، وَأَحْيَانًا مَلَكٌ في مِثْلِ صُورَةِ الرَّجُلِ، فأعِي ما يقولُ ، فهو إذا نزل عليه الوحي يدخل في حالة تجعل العرق يجري منه  حتى في اليوم البارد جداً ، و في طبقات ابن سعد عن عبادة ابن الصامت كان الوحي إذا نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) يكرب له ويربدُ وجهه ، ونقل ابن حبان : كان رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)  إذا أُنزِل عليه كرِب لذلك وتربَّد له .

فهو(صلى الله عليه وآله)  يتضايق  و يدخل في حالة كرب ويتغير وجهه أو يتغير لون وجهه ، وفي روية أخرى في طبقات ابن سعد ـ والعياذ بالله ـ   إذا أوحي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) يوقذ لذلك ساعةـ أي: يصاب بحالة إغماء أو حالة شبيه بالإغماء ـ كهيئة السكران.

واستنتج شبرنجر أنه (صلى الله عليه وآله)  كان مريضاً بمرض يسمى (الهستيريا العصبية) ، فشبرنجر الذي أورد هذه الروايات يتسرعّ  ليستنتج قائلاً: "كان محمد يعاني من مرض كان حين يأتيه يتملّكه،  وهو مرض شائع في بلادنا لدى النساء ولدى الرجال بشكل نادر. وهذا المرض يأخذ أسماء متعددة  شون لين  ، الهيستريا العصبية". و الهيستريا العصبية مرض نسائي، و لهذا يضيف: "إنهم مخطئون أولئك الذين يعتقدون أن هذا المرض لا يصيب الرجال  أبداً لأنه يظهر أيضاً عند البشر من جنس الرجال ولكن بشكل نادر جداً  ،  وكالعادة فإن هذا المرض يبدو في صورة نوبة. وحين كان يصيب محمداً بشكل خفيف كان يظهر الترنح والتشنج والذي هو الصفة المميزة لهذا الألم. وكانت شفتاه تضطربان وكذلك لسانه يبدو وكأنه يريد أن يلعق شيئاً: وكانت عيناه تدور في وقت قصير من جهة الأخرى ورأسه تتحرك بشكل تلقائي. وفي النوبات الخفيفة لهذا المرض تكون إرادة التحكم في الحركات قوية كما يمكننا إيقاف رعشة الأعضاء بإرادة قوية، ولكن في الحالات  الأعنف تكون الحركات آلية تحت ضغط الإرادة. وفي نفس الوقت كان يعاني كذلك آلاماً في الرأس (الهيستريا المفتتة للرأس) وعندما تكون النوبات عنيفة، يصل به الأمر إلى التخشب. وكان محمد يسقط على الأرض وكأنه ثمل، ويصبح وجهه محمراً وتنفسه ثقيلاً ويغط «مثل بعير»، ولكن يبدو أنه لم يكن يفقد الوعي، ولذلك فإن حركاته كانت تعرف بالصرع. وفور انتهاء زيارات الملك يكون محمد قادراً على التحدث إلى الأشخاص الحاضرين بما أوحي إليه وما جاءه الملك به، وحتى إذا كانت لهجته ضعيفة في أحيان كثيرة فإنها تثبت أنه كان في كامل وعيه. ومن خصائص الهيستريا المعروفة أنها تشبه أنواعا أخرى من الأمراض، ولذلك فإنه ليس المعاناة أن يخضع الشخص الواقع تحت تأثير الهيستريا لهذه النوبة مؤقتا ، وهذا المرض المتغير يظهر مرة في شكل التهاب رئوي ومرة أخرى على شكل أزمة قلبية تهدد بالموت في أحيان كثيرة وأحيانا يأخذ شكل الربو الكثيف. ويكون الأشخاص الحاضرون مرعوبين من ذلك، ولكن إذا فحصنا الحالة بطريقة أكثر دقة فتكشف أن أصل هذه الأعراض المرعبة لا يعدو أن يكون هیستریا لا خطر منها، وقد تتحول إلى حالة صحية جيدة، وربما إلى قوة طاغية سريعا كما هو الحال عند تحول الأطفال من الدموع إلى الضحكات" (2) .

ويسير شبرنجر على نفس المنوال قائلاً إن "هیستریا محمد كانت تأخذ شكل الحمى عادة، وذلك لأنه في المناطق الاستوائية وخاصة المدينة تعتبر الحمّى المتنقلة هي المرض السائد، وكل المشاكل الصحية تندرج تحته. وكانت نوبات محمد  تأخذ عادة إذاً شكل الحمى. وكان وجهه يصبح شاحباً وكان يضطرب ويشعر بقشعريرة وفي النهاية  تسقط قطرات عظيمة من العرق معلنة نهاية الأزمة" (3) .

 قبل أن أذكر الملاحظات المسجلة على هذه النظرية أذكر أمرين :

الأمر الأول : إنّ هذه النظرية و إن تحدّث أصحابها فيها عن الوحي المحمدي،  إلّا أنها تستهدف جميع أفراد الوحي حتى الوحي النازل على الأنبياء السابقين (عليهم السلام) ، كنبي الله إبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء ، لأننا لم تثبت عندنا نبوة الأنبياء السابقين ، ولا وحي الأنبياء السابقين إلا بإخبار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، و أما كتب اليهود والنصارى ، و العهد القديم و العهد الجديد فلا قيمة لها عندنا من الناحية التاريخية في إثبات وجود الأنبياء، وإثبات نبوة الأنبياء وإثبات وحي الأنبياء ، فطريق الإثبات وحي النبي (صلى الله عليه وآله) ، فإذا ضُرب الوحي المحمدي سوف تتعدى هذه الضربة إلى وحي جميع الأنبياء والمرسلين .

الأمر الثاني : هو إنّ هذه النظرية كانت موجودة في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، فإن الوثنيين والمشركين لمّا رأوا إصرار النبي (صلى الله عليه وآله ) على دعوته مع أنهم قدموا المغريات فقالوا له : إن أردت مالاً نُعطيك، و إن أردت جاهاً نُعطيك ، و إن أردت الملك نجعلك ملكاً علينا ، و كان جوابه (صلى الله عليه وآله) أن  قال لهم : "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"(4) .

فقد عرفوا منه الثبات و الإصرار على تحمل المشاق والمتاعب والصعاب في سبيل دعوته ، و بيان الحق بلسان المتيقن والواثق تمام الوثوق ، وهم من جهة  أخرى :  يعلمون حال النبي (صلى الله عليه وآله) ،  وأنه الصادق الأمين ، لم يُعرف منه الكذب والغش ، فلم يجدوا طريقاً في مواجهته (صلى الله عليه وآله) إلا أن يتهموه في عقله فاتهموه بالجنون، وقد رد عليهم القرآن في قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾  سورة التكوير: آية  22.، ثم قال لهم :﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾   سورة التكوير: آية  26.، إلى أين تريدون أن تصلوا في ادعائكم وافترائكم على النبي (صلى الله عليهم وآله) ،  ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾  سورة التكوير: آية 27.، فهؤلاء لمعرفتهم  بالنبي ولمعرفة المجتمع به ـ أيضاً ـ لم يجدوا  في التشكيك في صدق النبي (صلى الله عليه وآله) أثراً ، لأنهم علموا أن الناس لن يصدقوا فرية أن النبي (صلى الله عليه وآله) يدعي كذباً ، فاتهموه( صلى الله عليه وآله)  بالجنون ، فهذه التهمة  تُبين بحسب الحقيقة كمال النبي (صلى الله عليه) الأخلاقي ، وأنه لا طريق للشكيك في أنه يتحدث عن صدق وقناعة .

مناقشة نظرية المرض العقلي والنفسي في تفسير الوحي

الملاحظة الأولى : التي ذكرها تور أندريا (بالسويدية: Tor Julius Efraim Andræ)‏ المستشرق السويدي في كتابه (حياة محمد وثقافته) ، فقد ذكر أن  الروايات التي  اعتمدت عليها هذه النظرية ضعيفة من الناحية التاريخية (5) ولا تعتبر مستنداً تاريخياً يمكن التعويل عليه في إثبات عروض هذه الحالات على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

الملاحظة الثانية : لو تنزّلنا وسلّمنا وقلنا هذه الروايات صحيحة وقوية ويمكن التعويل عليها ، وفعلاً كان  النبي (صلى الله عليه وآله)  تعتوره بعض الحالات في حال تلقي الوحي، فإننا نقول مع ذلك ـ و بقطع النظر عن المعجزة ودليل صدق النبي (صلى الله عليه وآله) ـ  لا يمكن أن نعوّل على هذه الحالات لإثبات أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعاني من مشكلة عقلية أو من مشكلة نفسية ، كـ (الهستيريا العصبية) بحسب تعبير ألويس شبرنجر،  لأن الذين نقلوا هذه الحالات نقلوها على أنها حالات استثنائية نادرة كانت تقع للنبي (صلى الله عليه وآله) فقط  عند تلقي الوحي ، فهي ليست حالات عامّة تعتور النبي في جميع أوقاته ، وإنما  هي لحظات استقبال الوحي .

وبحسب رواياتنا نحن الشيعة فإن جبرائيل كان إذا نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) يستأذن ويجلس بين يديه (صلى الله عليه وآله ) جلسة العبد الذليل، وهذه الحالات الخاصة النبوية المقبولة والمعقولة في شأن النبي (صلى الله عليه وآله) ، و هي الخشية والغشية كانت ترد على النبي (صلى الله عليه وآله) إذا لم يكن بين النبي وبين الله تبارك وتعالى واسطة ، ففي توحيد الصدوق سأل زرارة الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) عن الغشية التي تصيب النبي عند نزول الوحي ، قال له (عليه السلام) : ذلك إذا لم يكن بين وبين الله أحد ، إذا تجلى الله تبارك وتعالى له.

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق ( رحمه الله) :(إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله ) كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو ينصاب عرقاً، فإذا أفاق قال: قال الله كذا وكذا وأمركم بكذا ونهاكم عن كذا. قال: وكان يزعم أكثر مخالفينا أنّ ذلك كان عند نزول جبرائيل. فسئل الإمام الصادق(عليه السلام) عن الغشية التي كانت تأخذ النبي (صلى الله عليه وآله ) أكانت عند هبوط جبرائيل؟ فقال: لا إنّ جبرئيل كان إذا أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله ) لم يدخل حتى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، وإنّما ذاك عند مخاطبة الله عزّ وجلّ إيّاه بغير ترجمان وواسطة) (6)

 إذن،  هذه حالات ترد في ظرف خاص، وليس في جميع الظروف وهي أعم من المرض، فإنه من المحتمل عقلاً أن عملية تلقي الوحي لها تأثير روحي ينعكس على البدن لوجود علاقة بين الروح وبين البدن ، فنحن نجد الشخص يخجل فيحمر وجهه، و يخاف فيصفر وجهه ، و الخوف و الخجل من حالات للروح ، و مع ذلك تنعكس على البدن ، و العقل ـ بقطع النظر عن دليل صدق النبي والمعجزة ـ يرى  من المحتمل أن يكون لعملية الوحي ـ التي هي عملية غيبية ـ تأثير روحي شديد ينعكس على البدن، وهذا يناسب اخبار القران ﴿سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ سورة المزمل: آية  5. و ما المحذور في ذلك ؟ 

 وقد ذكر الدكتور عبدالرحمن بدوي  مثالاً لطيفاً فقال: " حتى هذه القصص تأتي حقاً من أناس معروفين بالاسم، وهؤلاء الناس يعتقدون بوجود ظواهر غير عادية أثناء نزول الوحي تحت تأثير انتظار الوحي، وقد اعتقدوا بحدوث أشياء غير عادية، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون عادياً وطبيعياً. وهو أمر يحدث دائماً ونراه كل يوم. وأتباع أي رجل عظيم متحمسون له يعتبرون أن ما يرونه من جانبه من أحداث بسيطة،  كأنها أحداث غير عادية، وهذا ما جعل الناس يتصورونها كذلك - ما هو غير العادي أو غير الطبيعي في أن ينضج العرق من جبين محمد في يوم بارد حين تعتريه أشجان قوية، وكمثال بسيط على ذلك نذكر حالة أنور السادات في الكنيست في القدس في نوفمبر (۱۹۷۷) حيث كان جبينه يتصبب عرقاً طوال الوقت، ولكنّا لم نجد فرداً واحداً يقول: إن هذا العرق في هذا المكان البارد كان أحد أعراض الهيستريا !"(7).

و من  الواضح المشكلة ليست في تكييف الكنيست الإسرائيل، فلم  يكن الجو حاراً ،  وإنما السبب هو  أنه يعيش في وضع روحي خاص ، فهو في موقف يجعله يعيش في حالة من الحذر والقلق ، وهذه الحالة انعكست على بدنه،  ولم يقل أحد من المراقبين أن السادات في تلك اللحظة كان مصاباً بالهستيريا العصبية .

وطبعاً لا نوافق الدكتور بدوي في أن كل هذه الحلات عادية ، وإنما نقول تأثيرها كتأثير الحالات العادية لا ينحصر في وجود مرض.

وعند المستشرق مورس ديمومبين (بالفرنسية: Maurice Gaudefroy-Demombynes)‏ تعليق جيد  على كلام شبرنجر ، فهو يقول: إن  المصاب بالهستيريا العصبية ينخفض مستوى الوعي عنده ويفقد الاتزان الذهني والذاكرة ، بينما النبي محمد (صلى الله عليه وآله)  إذا اعتورته هذه الحالات يتحدث بالقرآن الكريم،  وهو كتاب يدل على الوعي والبلاغة والفصاحة ، فكيف يمكن أن نُفسر هذه الحالات بأنها مرض عقلي أو مرض نفسي  ! (8) .

الملاحظة الثالثة : هي أننا في منهج المستشرقين مع تراثنا وتاريخنا نواجه مشكلة شبه عامة،  وهي إن الكثير من المستشرقين عندهم أفكار مسبقة يدخلون بها  في دراسة تراثنا، ويريدون أن يُسقطوها على تراثنا ، فيمارسون علمية الازدواجية ،  فيأتون عند قرائن تنافي أفكارهم، فيتجنبونها وكأنها غير موجودة ، وأما القرائن التي لا تدل، فيتمسكون بها،  ويضخمونها وكأنها القرائن والأدلة الوحيدة ، لكي يُثبّتوا أفكارهم المسبقة،  وهذا ما فعله ألويس شبرنجر فإنه لم ينصف في دراسة تاريخ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، والدكتور عبدالرحمن بدوي في ( دفاعاً عن محمد صلى الله عليه وآله) نقل مقالاً  بعنوان الهستيريا من الموسوعة الطبية الفرنسية الصادرة 1986م، وفي هذا المقال : إن هناك صفات لمن يصاب بالهستيريا العصبية ، فشخصيته تكون شخصية مهزوزة ويكون انطوائياً ويخاف  فينحى بنفسه في المواقف الصعبة ، و دائماً يحاول أن يكون في عزلة ، لأنّه يخاف من الضجة من حديث الناس ، ويحاول أن يسدّ نقصه بذكر الأكاذيب التي تضخم وتفخم من شخصيته ، وهذه الأمور بأجمعها لا تنطبق على شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ، فالنبي (صلى الله عليه وآله) كانت شخصيته قويّة  جداً ، كان هو ومعه خديجة (صلوات الله وسلامه عليها) وأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يواجه الحجارة والأشواك والسب والقذف،  ومع ذلك كان الجبل يتحدى العالم بأسره، كما أنه (صلى الله عليه وآله) كان يعيش حالة من الكمال الأخلاقي، و كانت سجاياه عظيمة جداً ، وعنده علم جم وحكمة بالغة ، و استطاع بحكمته وعلمه وبقوة شخصية أن يلقي بنفسه في أصعب الظروف وأشد المواقف، حتى غيّر المجتمع العربي من مجتمع متخلف ثقافياً يعيش على السلب والنهب ، و الحمية الجاهلية إلى دولة متطورة استطاعت أن تسقط إمبراطورية كسرى بعد أربعة عشر سنة فقط من ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله) ، كما استطاعت دولته المنفعلة بشخصيته أن تتمدد في آسيا وشمال أفريقيا وجنوب أوربا ، وتحولت إلى عاصمة الدول العلمية ، فقد كانت مقصد المتعلمين من شرق الأرض وغربها بعد مائة وسبع سنوات فقط من ارتحال المؤسس .

لله سعيك قد بنيت معالماً ** للعلم بالتحريم و الإحلال

ومسحت رأس الجاهلي بشرع ** مثلى لمحو الجهل و الإعلال

قد كان مأسور الحمية والهوى ** فجعلته حراً بلا أغلال

فغدى يشيد من العلوم مدارساً ** تبني العقول بأحكم الأقوال

وخلقت فيها الكاملين كجعفر ** أو جابر أو هاشم المرقال

 فكيف يمكن أن يقال عن هذه الشخصية العظيمة بأنها كانت مصابة بمرض عقلي أو بمرض نفسي ، فهذا مايكل هارت  صاحب (العظماء المائة ) جعل النبي (صلى الله عليه وآله) الرقم الأول  قبل المسيح وقبل أرسطو  ، و يذكر في سر التقديم: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يختلف عن غيره  ـ وأن كان عظيماً وله أثر كبير ولربما في نظر مايكل هارت أثره أعظم من أثر النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)ـ  بأنه غير النبي جاء في حضارة تراكمت فيها الخبرات ، وتراكم فيها النتاج البشري ، أما النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) ،  فجاء في منطقة متخلفة خارجة عن التاريخ وركب التحضر ، فبدأ من الصفر ، ومع ذلك كان له هذا الأثر العظيم والسريع جداً .

فإذا قرأنا سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بأمانه وإنصاف واعتمدنا على القرائن القطعية في شخصيته، و في منعطفات حياته نقطع بأن شخصيته (صلى الله عليه وآله) كانت سوية ومتزنة،  وأنه لم يكن (صلى الله عليه وآله) يعاني من مشكلة في عقله أو مشكلة في نفسه ، وليس من البالغة في شيء القول بأن من يقرأ سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قراءة منصفة لابد أن يقطع بأن النبي (صلى الله عليه وآله)   أكمل إنسان عرفه تاريخ البشرية في كماله و استقامته الروحية والعملية، و أما الذي لا يقرأ التاريخ بكيفية منصفة، وينتهي إلى أن النبي مصاب بمرض الهستيريا العصبية، فهو في الحقيقية الحقيق بمرض الهستيريا.

لقد رفض المستشرق فرانتس بول (بالدنماركية: Frants Buhl)‏ هذه النظرية الظالمة بعد أن قرأ حياة النبي (صلى الله عليه و آله)  بإنصاف ، فقال : "إننا لا بد أن نصل إلى فهم كامل لشخصية محمد عندما ندقق فيما كانت عليه حالته في الفترة الأولى من ظهوره في مكة، وقد كان على خلق عظيم وشخصية مستقيمة ونموذجية بشكل يسترعي الانتباه (9). ولكن شخصية محمد في مكة بعد ذلك سرعان ما طرأ عليها تغير حسب ظروف حياته هناك، والتي كانت تتطلب كثيراً من الاعتبارات الواقعية والتحفظات التي يمليها الموقف، ولكنه وكما يقول «بول» يجب أن نكون حذرين في توجيه مثل هذا الاتهام إلى محمد وهو رجل ظل حتى آخر رمق من حياته مقتنعا تماما بحقيقة المصدر الإلهي لرسالته، وحتى ساعة موته لم يشك لحظة في هذا الأمر. ولذلك لا بد أن نصل إلى الحقيقة عندما نفترض وجود عارض نفسي كان من الممكن لمحمد بواسطته أن يتذكر هذه الظروف المرضية دون أن يكون واضحاً أمام عينيه ودون أن يلاحظ أي فرق في الموضوعية بين الأعراض الناشئة عن هذا المرض وتلك التي كانت تحدث له قبل ذلك. إن المقدرة العقلية لرجل كهذا المفروض أنه مصروع هي ظاهرة تنطبق تماماً  وتتفق مع الحكم عليه بمنطق بسيط سهل أنه رجل طبیعی يخلو من المرض" (10) .

الملاحظة الرابعة : لقد قام شبرنجر بعملية ازدواجية حتى مع روايات حالات تلقي الوحي أنفسها، فقد سلط الضوء على قسم منها ، وترك قسماً آخر يتنافى مع نتيجته ، حيث توجد فيه حالات لا يمكن أن تفسر إلا بنحو غيبي ، ومن هذه ما عن ْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه و آله) وَأَنَّهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَرْغُو وَتَفْتِلُ يَدَيْهَا حَتَّى أَظُنَّ أَنَّ ذِرَاعَهَا تَنْقَصِمُ فَرُبَّمَا بَرَكَتْ ، وَرُبَّمَا قَامَتْ مُوَتِّدَةً يَدَيْهَا حَتَّى يُسَرَّى عَنْهُ مِنْ ثُقْلِ الْوَحْيِ ، وَإِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ، وما عن  أمير المؤمنين (عليه السلام): (نزلت على النبيّ (صلى الله عليه و آله) سورة المائدة، وهو على بغلته الشهباء، فثقل عليه الوحي حتى وقفت، وتدلّى بطنها، حتى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، وأُغمي على رسول الله (صلى الله عليه و آله) حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي...) (11) .

فإنه لا يمكن تفسير حالة الثقل وعجز الدابة عن حمله بالمرض النفسي ، لأنه لا يساهم في تثقيل الوزن ، و لكن شبرنجر وهو يتصرف كحاطب ليل تعامى عن هذه الروايات ، وكان عليه أن يأخذها بالحسبان ما دام يعتقد بقيمة كل رواية في تراثنا.

______

الهوامش

(1) حياة محمد وثقافته ص 269 ـ 275 .

(2) المصدر نفسه ص 208 ـ 209.

(3) راجع دفاعاً عن محمد صلى الله عليه و آله : ص 114 ـ 115.

(4) ابن هشام ج 1 ص 396.

(5) دفاعاً عن محمد (صلى الله عليه و آله) : ص 120 .

(6) كمال الدين: ص85. وبحار الأنوار: ج18 ص260 ح12.

(7) دفاعاً عن محمد (صلى الله عليه وآله ) ص 121.

(8) محمد ص 73.

(9) حياة محمد ص 141 .

(10) دفاعاً عن محمد (صلى الله عليه و آله ) ص 119.

(11) تفسير العياشي: ج1 ص288 ح2 والذؤابة: شعر مقدم الرأس.