القائمة الرئيسية

الصفحات

سلامة القرآن الكريم من التحريف | السيد محمد باقر السيستاني (دام ظله)

سلامة القرآن الكريم من التحريف السيد محمد باقر السيستاني
من تقريرات دروس سماحة السيّد محمد باقر السيستاني (حفظه الله) بعنوان (مدخل موجز للتفسير) الدرس2 ق3 ليلة الأربعاء 2 شهر رمضان 1440هـ.

ثامناً: سلامة القرآن الكريم من التحريف

الأمر الثامن: أنّه ليس هناك شكّ في أصل محفوظية القرآن الكريم عن كلٍّ من الزيادة والنقصان والتغيير؛ فالقرآن الكريم بالنظر إلى ثوابت المعلومات التاريخية وبديهياتها محفوظ حفظاً تاريخيّاً جماعياً بيّناً لم يكن يَقدِر أحد أن يتصرَّف فيه بزيادة أو نقصان أو تغيير.
والسرّ في ذلك: أنّ القرآن منذ بدايات نزوله إنّما نزل بعنوان القرآن والكتاب، حتى تكررت تسميته بالقرآن وبالكتاب منذ السور المكيّة الأولى، ومعنى نزوله بعنوان القرآن والكتاب أنّ من شأنه أن يُقرأ ويُكتَب ويُدوَّن.
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) منذ العهد المكّيّ يسعى إلى حفظه والاهتمام به ونشره حتى جاء في سورة القيامة (وهي السورة الثلاثون من السور المكّيّة بحسب ترتيب النزول): { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (*) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (*) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }(۱)، وجاء مرةً أخرى تطمين النبيّ (صلى الله عليه وآله) على حِفظ الله سبحانه للقرآن، كما في سورة الحجر: (وهي السورة الثالثة والخمسون بحسب ترتيب النزول): { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(2).
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يُشجّع الصحابة على حفظ القرآن وتلاوته، كما جاء: أنّه حذّر من نسيانه بعد حفظه. ولمّا جاء إلى المدينة ازدادت عنايته بهذه الجهة بما أُتِيح له من الإمكانات، وعندما أسر في حرب بدر عشرات من قريش وفيهم من يعلم الكتابة جعل الفدية لمن يُعلِّم الكتابة منهم تعليمها لعشرةٍ من المسلمين؛ حتى تنمو الكتابة في المجتمع الإسلامي.
وقد تعددت المصاحف للصحابة بين مصاحف جامعة وأخرى مقتصرة على جملة من السور، وكان حفظ القرآن منتشراً بين المسلمين جداً، علماً أنّ حافظة العرب فيما يبدو كانت قويّة؛ حيث كانوا يعوِّلون عليها في حفظ التاريخ والحوادث التاريخيّة المتعلّقة بأسلافهم؛ إذ لم تكن الكتابة والتدوين رائجة لديهم، وكان رقيّ الأسلوب القرآني والاعتزاز بكلام الله سبحانه عاملاً مساعداً على اهتمام كلّ من يدخل في الإسلام بحفظه بحسب ما يتيسّر له؛ ولذلك كان من يدخل في الدين من أهل المدينة والمهاجرين إليها يلتحق بحلقة من حلقات تعليم القرآن في المسجد.
کما شَجَّع غير أهل المدينة - بعد عموم الإسلام الجزيرة العربية في عام الوفود - أن يَِد من كلِّ فرقة منهم طائفة لتعلّم معالم الدين، وأبرز سبله آنذاك الاطّلاع على القرآن الكريم وحفظه، كما جاء في سورة التوبة - وقد نزل قسم منها في السنة التاسعة للهجرة - (3): { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }.
وقد عُرف الكثير من الصحابة أنّهم قرّاء القرآن منذ العهد النبويّ المدنيّ؛ من جهة كثرة قراءتهم له، حتّى جاء أنّه قد قُتل في بعض غزوات النبيّ (صلى الله عليه وآله) - وهي غزوة بئر معونة التي اتّفقت في صفر السنة الرابعة للهجرة - سبعون من القراء.

[ مراحل حفظ وتدوين القرآن الكريم ]

وتوضيح ذلك - بإيجاز -: أنّ القرآن الكريم مرّ في حفظه وتدوينه بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى:
مرحلة حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) منذ نزول القرآن عليه قبل ثلاث عشرة سنة أو عشر سنوات من الهجرة حتّى وفاته لعشر سنواتٍ من الهجرة، وهي عشرون سنة أو ثلاث وعشرون سنة.
ولا شكّ في محفوظيّة القرآن الكريم في هذه الفترة وفق العوامل والشواهد التي ذكرناها، ولم يؤثر أيّ حدث أو نصّ يدلّ على تعرّض القرآن الكريم للتحريف والتغيير، وهذا أمر غير متوقّع في نفسه بعد وجود النبيّ (صلى الله عليه وآله) بين ظهراني المسلمين.
المرحلة الثانية - وهي المرحلة المتوسّطة -:
مرحلة ما بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى جمع عثمان المسلمين على مصحفٍ واحد، وهي مدّة خمس عشرة سنة فحسب، فاصلة بين وفاة النبيّ (ص) في السنة العاشرة للهجرة وتوحيد المصاحف في السنة الخامسة والعشرين للهجرة.
وليس هناك من شكّ في محفوظيّة القرآن الكريم في هذه الفترة؛ إذ كانت حركة تلاوة القرآن وقراءته وإقرائه وحفظه وتدوينه في انتشار مطّرد بحسب طبيعة العوامل الدينيّة والاجتماعيّة وتوسّع الإسلام ورقعته الجغرافيّة والداخلين فيه من الأقوام. وقد جاء أنّه قد قُتل سبعون من قرّاء الصحابة في بعض الحروب التي اتّفقت في عصر أبي بكر . على أنّ هذه المدّة - وهي (15) سنة تقريباً - الفاصلة بين وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبين تدوين المصحف الموحّد في عصر عثمان - الذي عليه استقرّ تدوين القرآن حتّى العصر الحاضر - مدّة قليلة بحسب المنظور التاريخيّ.
المرحلة الثالثة:- النهائيّة - :
هي مرحلة توحيد المصاحف في عهد عثمان في سنة (25هـ) إلى عصرنا هذا، وهي ألف وأربعمائة وخمس عشرة سنة.
وحفظ القرآن دون أيّ تغيير في هذه المرحلة التي تمتد إلى عصرنا الحاضر أمرٌ محسوس حتى كأنَّه مرئيّ برأي العين من دون أدنى شكٍّ تاريخيّ.
وذلك أنّ تحقّق هذه الحادثة - وهي توحيد المصاحف من قبل عثمان وجمعه للصحابة في الأمصار على مصحف واحد في سنة (25) تقریباً - أمرٌ بديهيّ للغاية. وقد أرسل عثمان نسخة من هذا المصحف إلى كل الأمصار المهمّة آنذاك، وهي: مكّة، والكوفة، والبصرة، والشام؛ فصار المصحف المتّبع فيها، وعُرف هذا المصحف الموحد بـ(مصحف الإمام).
وكان سبب هذه الحادثة: اختلاف قرّاء الأمصار بعض الشيء في قراءة بعض ألفاظ القرآن عند اجتماعهم في جبهات القتال، وهو ما كان يُنذر بالخطر؛ لأنّه في حال استقرار هذا الخلاف وتناميه يجعل القرآن معرّضاً لأن توجد منه نُسخ متعددة تختلف باختلافٍ في القراءات، خلافاً يسري إلى الكتابة ولا يختصّ بالنطق أو يُدخِل في نصّ القرآن إضافات إيضاحيّة لبعض الصحابة.
وكان عثمان قد اتخذ هذه الخطوة - بحسب الأخبار التاريخية - باستشارة الإمام علي (عليه السلام) وآخرين من الصحابة.
وقد مثّل هذا الحادث - وهو توحید عثمان للمصاحف - حدثاً تاريخياً كبيراً من أحداث عصر عثمان بما جعله حدثاً واضحاً وبديهيّاً في التاريخ، حيث إنّه صادر مصاحف شيوخ القرّاء في الأمصار مثل عبد الله بن مسعود بالكوفة، وأُبيّ بن کعب بالشام وأتلفها، وأدّى ذلك إلى امتعاض بعض هؤلاء القرّاء وأتباعهم، حتّى حدث بين عثمان و ابن مسعود أخذٌ وردّ شديد في ذلك.
فالقرآن الكريم منذ مصحف عثمان إلى هذا الزمان محفوظٌ برسمه حتّى أنّ الأغلاط الإملائيّة التي اتّفقت في المصحف أُبقيَت على وضعها وحُفظت تفصيلاً، ونُبِّهَ بنحوٍ ما على النطق الصحيح في موردها؛ بل كانت المصاحف تُكتب بالرسم العثمانيّ، ولا يزال كثير من المصاحف يُرسَم برسم المصحف العثمانيّ.
ونُقل مؤخّراً في أخبار موثوقة: اكتشاف إحدى مخطوطات القرآن الكريم في لندن التي تتعلق بنفس هذا التاريخ - حيث إنّ تأريخها يرجع إلى حدود عشرين سنة بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله)-، وهي تُماثِل القرآن الموجود عندنا . ونُقل أنَّهم يريدون عرضها في فترة قريبة للزائرين.
إذن، فالقرآن الكريم محفوظ منذ مصحف عثمان الذي كُتب بقرار الصحابة وأهل البيت (عليهم السلام) بعد (15) سنة فقط من وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حفظاً بيّناً لا يشوبه أدنى شكّ و تردید؛ بل هو كما قلنا أشبه بالمحسوس الذي يجده الإنسان أمام عينه.
لقد كان النصّ القرآنيّ حقاً ظاهرةً اجتماعيّةً تاريخيّةً ليس باستطاعة أحد أن يزيد فيه أو يُنقص (4)؛ فهو مصونٌ من أيّ تغيير في زيادةٍ أو نقصانٍ أو تبديلٍ عدا ما يُعدُّ من قبيل اختلاف القراءات أو ما في قوَّته، وما عدا ذلك لم يكن هناك أيّ تغيير في النصّ القرآني.. فهذه بديهة واضحة للغاية، وهو محلّ اعتراف العديد من المستشرقين الذين تحقّقوا في أمر هذا النصّ.
وتلك ميزة للقرآن الكريم بين الكتب الدينية، ولا يماثله في ذلك أيُّ کتاب دینٍ آخر لا التوراة ولا الإنجيل ولا كتاب زرادشت ولا الكتب المنسوبة إلى بوذا وسائر الأديان، فلا شيء منها محفوظ بشكل واضح تاريخياً.
وليس في التراث الإسلاميّ أيّة رواية تتضمَّن زيادة شيء - كآية - في القرآن الكريم، ولا تغيير شيء - من قبيل تبديل آية بآية -.

[ ضعف روايات تحريف القرآن ]

نعم، هناك روايات ضعيفة في المنظور النقدي الجامع من طرق أهل السنّة تتضمَّن سقوط بعض آیات القرآن الكريم، وفي بعض التراث الروائي للإماميّة أيضاً روايات تضمَّنت مثل ذلك؛ ولكنَّها وردت عموماً في المصادر غير المعتبرة وغير الموثوقة أو الطرق التي هي كذلك.
ومن الملفت في شأن ذلك: أنَّه لم يُنقل في شيءٍ من هذا التراث جملةً واحدة تليق بأن تكون آية قرآنية..
مثلاً: روى الجمهور عن عمر أنّه انفرد بتوهّم جملة تضمَّنت رجم الشيخ والشيخة آية، ولفظها أنّ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)(5)، لكنّه لم يتجرّأ على درج ذلك في المصحف مخافةً من عامَّة المسلمين. على أنَّ مِن الواضح أنّ هذه الجملة ليست على النسق الأدبيّ القرآنيّ؛ لكن يبدو أنّ من الصحابة من كان يفوته مثل ذلك، ولا يميّزه بذوقه الأدبيّ.
وأيضاً: آية التراب: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على من تاب)(6)، وهذه الجملة أيضاً لم يتجرّأ أحد على درجها في المصحف، ومن الواضح أنها أيضاً ليست على نسق آيات القرآن الكريم.
ومن أجل وضوح عدم عدّ عامّة الصحابة المسلمين لهذه الجمل من القرآن الكريم حتى في العهد الأوّل وعدم جرأة أحد على درجها في المصاحف وجّه العديد من علماء أهل السنّة هذه الروايات التي أذعنوا بصحّتها بأنّ الجمل التي وردت فيها كانت من القرآن ولكنّها نُسخت نسخ تلاوة؛ فهي أُلغيت من القرآن بعد أن كانت منه رغم بقاء مضمونها ونفوذه بعد ذلك، وهذه فكرة غريبة حدثت لديهم في القرن الثالث.
والصحيح في شأن هذه الروايات: أنّها ليست موثوقة وفق النظر النقديّ؛ إذ ليس من الوارد تحدّي الأحداث التاريخيّة الواضحة والبديهيّة بأوهام فرديّة سبقت إلى بعض الأذهان أو حکایات وأخبار عُهدت في عصورٍ لاحقة؛ فالروايات تُقيَّم على ضوء الحقائق التاريخيّة وتكون موثوقة أو مريبة بمقدار موافقتها معها أو مخالفتها إيّاها وليس العكس، ولو قُدّر حصول الوثوق بها فينبغي حملها على أنّها تمثّل أوهاماً فرديّة حدثت لبعض الصحابة، حيث ظنّوا بعض الأحاديث آیات، ولم يعبأ جمهور المسلمين بذلك؛ كيف ومن الواضح لأيّ أديبٍ في اللغة العربية أنّ مثل هذه الجمل لا تماثل النسق القرآني، ولا ترقى إليه في حالٍ، ولا تشبهه أو تنتمي إليه من قريب ولا بعيد.
فسلامة القرآن بديهة تاريخيّة - بغض النظر عن حقانيّة الإسلام من عدمها-؛ بل ذلك ما يقضيه البحث الموضوعيّ كحقيقة تاريخيّة، وذلك محلّ إذعانِ أهل البيت (عليهم السلام). وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مدائح بليغة للقرآن الكريم في نهج البلاغة، وقد أكّد الأئمة من ذريته خاصة الإمام الباقر والصادق (صلوات الله عليهما) مرجعيّة القرآن الكريم، وتفوّقه على السنّة المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام) مطلقاً، وهو في الحقيقة شيء بديهي للغاية .
وللموضوع مزید توضیح يوكل إلى مباحث علوم القرآن.
إذن الانطلاق في التفسير يكون من البناء على سلامة القرآن الكريم عن التحريف.
نعم، بعض قراءات القرآن الكريم فيما يبدو نشأت عن بعض الاجتهاد في قراءة النصّ القرآنيّ وكيفيّته؛ وذلك لا يمسّ بسلامة القرآن الكريم.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين
_______
الهوامش
1- سورة القيامة: 16- 18.
2- سورة الحجر:9.
3- سورة التوبة:۱۲۲.
4- حتّى إنّه ورد في بعض روایات الجمهور عن عمر أنّه قال: (لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي) (يلاحظ - مثلا -: صحيح البخاري: ۸/ ۱۱۳).
5- يلاحظ - مثلا : مسند أحمد بن حنبل: 5/ ۱۸۳.
6- يلاحظ ۔ مثلا : مسند أحمد بن حنبل: ۳/ ۱۳۲.
ملاحظة: العناوين المحصورة بين الزدوجين [  ] أضفناها لتسهيل مراجعة البحث وليست في المصدر.