مبادىء التعايش السلمي وفق رؤية المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف |
اكدت المرجعية الدينية العليا على ضرورة التعايش الاجتماعي الصحيح مع الاخرين وكيفيته واعتبرتها حاجة ضرورية لتنظيم امر المجتمع وازدهاره واستقراره .
وفي هذا الصدد قال ممثل المرجعية في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي خلال الخطبة الثانية لصلاة الجمعة 22/شعبان/1438هـ الموافق 19/5/2017م على التالي:
ان كل فرد وكل مجتمع بحاجة ضرورية الى الاجتماع والتعايش مع الآخرين لأنه لا يمكن لكل فرد او مجتمع ان ينهض بمقومات وجوده الا من خلال التعايش مع الاخرين،مؤكدا على وجود حاجة ضرورية للتعايش الاجتماعي مع الاخرين ولابد ان ينظّم هذا التعايش الاجتماعي وفق مبادئ واسس وقواعد تنظم هذه العلاقات بحيث يستجاب منها الحاجة الفطرية وتتسق مع سيرة العقلاء وفي نفس الوقت يستقر المجتمع ويسعد وتنتظم اموره بعيداً عن تسلط الانانية والغريزة الشخصية والمصالح الانانية الضيّقة وغير ذلك من الامور الانسانية التي تهدد سلامة العلاقات الاجتماعية وتهدد استقرار المجتمع.
واضاف ان الانسان تارة يعيش مع اشخاص يتفقون معه في اللون واللغة والمذهب واحياناً الانسان يعيش مع اخرين يختلفون معه في الرأي والدين واللغة وغير ذلك من الامور.. ما هي المبادئ والاسس التي وضعها الاسلام التي تتفق مع الفطرة وسيرة العقلاء والحاجة الإنسانية التي وضعها للتعايش الصحيح والسلمي مع الآخرين..
لدينا مبادئ ان فهمناها واستطعنا تطبيقها امكن ان نضمن علاقات صحيحة ونضمن الاستقرار والسعادة للفرد والمجتمع..
المبدأ الاول: طبيعة النظرة العقائدية للآخر:
تارة سكن يشترك معي في السكن واللون والعقيدة والمبدأ وتارة الانسان يختلف معي في بعض هذه الامور.. طبيعة النظرة العقائدية للاخر مهما كان الاخر ان كانت هذه النظرة العقائدية سليمة حينئذ يمكن لي ان اقيم فرداً ومجتمعاً علاقات صحيحة وسليمة مع الاخر اضمن من خلالها الازدهار والاستقرار ألا وهي نظرة الانتماء الى وحدة الاصل الانساني..
اخواني هذه مهمة نحتاجها نحن في بلدنا ونحتاجها مع البقية..
انظروا بتأمل وبتمعّن الى بعض الايات القرانية حيث يؤكد القران الكريم على هذا المبدأ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) – النساء1-.
انتم ايها الافراد الذين تختلفون في اللون وفي اللغة وفي القومية وفي الجنس ما هي نظرة بعضكم الى البعض الاخر، هل يجوز ان انظر الى هذا الذي يختلف معي في اللون كأن يكون اسود اللون نظرة احتقار وازدراء.. مثلا صاحب قومية معينة ولغة معينة وله صفات فيها تفوق هل يجوز ان ينظر الى اصحاب قومية اخرى نظرة ازدراء واحتقار واستعلاء..
القران الكريم يقول يا ايها الناس كلكم خلقتم من نفس واحدة ولكم اصل واحد، والتمايز انما هو بالتقوى والعبودية لله تعالى..
لاحظوا في آية اخرى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) – الحجرات 13-.
هذا الاختلاف في الجنس او اللون او القومية او الامور الاخرى انما هي لحكمة لا لشيء آخر.. لا ان البعض بسبب اللون او القومية او اللغة او الجنس يفضل البعض الاخر.. فلذلك لابد ان تكون نظرتنا كيف نتعامل وكيف ننظر الى الاخرين ممن يختلفون معي..
عليّ ان اتعامل وانظر الى الاخرين نظرة الاحترام والتقدير والاحترام وحفظ الكرامة لهؤلاء وان اختلفوا معي في هذه الامور لأننا جميعاً من اصل واحد..
ولاحظوا الوصية التي وردت عن امير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر
في كيفية التعامل القلبي الذي ينبعث منه المعاشرة الاجتماعية مع الاخرين..: (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم.. فإنهم صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق).
المبدأ الثاني: إشعار كل فرد بالحاجة للآخر:
فكل انسان بل كل مجتمع بشري لا يمكن ان يحقق مقومات عيشه وتطوره وديمومته الا من خلال تلبية احتياجاته من الآخر.. فهو لا يملك القدرة مهما عمل وكان له من الامكانات البشرية والمادية ان يحقق اغراضه واهدافه ومقومات حياته فلابد للانسان من الاجتماع والتعايش مع الاخر ضمن قوانين تنظيم عملية التبادل المنفعي بصورة تحفظ حقوق الجميع ولا تجعل البعض يتجاوز على الآخرين سالباً منه حقه ومنافعه..
قال الامام الصادق (عليه السلام): (إنه لابد لكم من الناس ان احداً لا يستغني عن الناس حياته والناس لابد لبعضهم من بعض).
ان شعور الانسان بوجود حاجة ضرورية له للاخرين يجعله يحاول الاتساق معهم ضمن نظام اجتماعي صحيح يحفظ للجميع حقوقهم.
المبدأ الثالث: الحب للآخر ونزع الانانية:
كل واحد منّا اذا استطاع بمقدار ما ينزع الانانية من نفسه يربح اكثر في علاقاته الاجتماعية وينفع نفسه ومجتمعه اكثر، وبمقدار ما فيه من صفات الانانية يضر نفسه ويضر مجتمعه اكثر..
يضع امير المؤمنين في وصيته لولده الحسن (عليه السلام) الموازين الصحيحة للتعايش والتعامل مع الآخرين فيقول (عليه السلام): (يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلمِْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ. وَاعْلَمْ، أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَة ُالْأَلْبَابِ. فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ..)
فالدين الاسلامي وضع الاسس والمبادئ لأصول المعاشرة بين الناس بما يضمن حسن العلاقات فيما بينهم ويؤسس لمجتمع بعيد عن الاحقاد والتناحر والصراع..
المبدأ الرابع: تحري قواعد العدل والانصاف والقسط والعفو والصفح:
فالانسان والمجتمع الانسان معرض لأسباب عديدة من انحاء الصراع المختلفة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للتناحر والتحارب والصراع والعداءات والاحقاد، ولم يغفل الاسلام عن وضع قيود وكوابح للنفس الامارة بالسوء وتسويلات الشيطان عند حصول هذه الظروف بين الانسان واخيه وبين المجتمعات.. فجعل قواعد العدل والقسط والانصاف والعفو والتسامح منظمة لطبيعة التعامل مع الآخرين عند حصول هذا النمط من العلاقة..
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..) – المائدة 8-.
وقال امير المؤمنين (عليه السلام): (أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)
المبدأ الخامس: تطهير النفس من النظرة الاستعلائية والازدراء للآخرين:
فإن بعض الافراد والمجتمعات ترى نفسها اعلى مرتبة ورقياً وتنظر لغيرها بازدراء واحتقار واستعلاء، وينبع ذلك لما تراه – بحسب نظرها- تفوق وتميّز على الاخرين ولكن ليس وفق المعايير الصحيحة للتميّز كنظرة التفوق في الجنس والقومية والديانة والمعتقد والقبلية او القوة او التقنيات ونحو ذلك.. مما يؤسس لنمط علاقات تثير التناحر والازمات والصراع وتولد مشاعر الكراهية والبغض وعدم قبول الآخر للتعايش معه..
لابد ان تكون نظرتنا هذه النظرة المبنية على هذه المبادئ وهذه المبادئ عامة وان حفظناها وفهمناها ونحاول تطبيقها في مجال العلاقات الاجتماعية مع الاخرين امكن ان ينتظم امر المجتمع ويزدهر ويستقر وتنشأ منه السعادة والاستقرار..